الصوت المختلف 2011 

 

شعـرية التفـرد والمغايـرة

د. أحمـد عفيفـي
عندما ننتهي من قراءة عملٍ شعريٍّ للشاعر العراقيّ علي جعفر العلاق، وقد أصابتنا دهشة التلقّي، تنفصل أحلامنا عن واقعنا الشائك، لنعيش الحقيقة الشعرية بما فيها من متعةٍ قد يشوبها الألم، وعذوبةٍ عامرةٍ بالانبهار. حين نتجول مع الشاعر في الأزمنة بكل تحولاتها وتناقضاتها، والأمكنة بكل روائحها وتنوعها، فنخرج مشبعين بالمطر والجمر والخيال المباغت، وبتلك الأسئلة المتوالية التي قد تحرّض على البوح، لكنها لا تبحث عن إجاباتٍ، فإجاباتها مستحيلة، في حداثةٍ شعريةٍ محتشدةٍ بالاشتعال والجنون .ربما كانت تلك الحقيقة الشعرية أكثر إيلاماً من الواقع، وأشد حرارةً من لهيبه، ولكنها تخلق حالةً جديدةً من الرضا النفسيّ تتلبسنا مع أحلام الشاعر اللامحدودة، حين يخلق فضاءاتٍ شعريةً أكثر اتساعاً من الواقع، فتسكننا تلك الأحلام، لنكتشف من خلالها ذواتنا، حين نتأمل تلك اللوحة التي رسمها الشاعر لوجع الشعر العربيّ وحزنه النبيل.
يفاجئنا شعر العلاق بتلك الأنساق الغرائبية في بناء القصيدة ولغتها الخاصة وصورها المفاجئة، فتعانقنا في ثنائياتٍ متضادةٍ أو متساوقة،عندما يتجاوز الشاعر المألوف والمتوقع ليؤسس أنساقاً إدهاشيةً وانزياحاتٍ لغويةً مثيرةً للتأمل.
عندما يشعر العلاق بعجز اللغة عن نقل ما تحتشد به روحه أو مخيلته من سخطٍ أو رضا يقوم بتفجير اللغة ودلالاتها، باستخدامه لغةً مشبعةً بالمطر واللهب والرشاقة والموسيقى، محملةً بالبوح والإفضاء، وعلى المتلقي أن يكون يقظاً لفكّ شفرات النصّ وكشف أسراره، ومن هنا نجد شعر العلاق متجاوزاً حدود الدلالات اللغوية التقليدية، فهو فوق الزمن، الماضي فيه حاضرٌ، والحاضر ماضٍ. وفوق الواقع، فالخيال أكثر واقعيةً، والواقع أكثر خيالاً. وكلاهما وهمٌ وضياع، إن شعره فوق الممكنات؛ فالممكن يصير مستحيلاً،والمستحيل يصير ممكناً، ومن هنا وجدنا هذا التغاير في الإيقاع واللغة والصورة والرمز في شعر العلاق.
عندما يبحث العلاق عمن يؤنس وحشته من البشر، فلا يجد أحداً، فإنه يؤنسن الطبيعة بكل ما فيها نشداناً لحوارٍ إيجابيٍّ حول فجائع البشر وأوجاعهم، والبحث لهم عن طريق الخلاص. وعندما يبحث عما يطفئ الغضب والحزن، فلا يجد إلا اللهب نفسه ليطهر به الجسد المحموم، وعندما يريد إشعال المشاعر ويقظة الوعي الإنسانيّ، فلا يجد إلا ماء الغرابة والمرايا. وعندما تضيق به حدود اللحظة يحوّلها إلى آلاف السنوات، أو يختصر الزمن في لحظةٍ مدهشة، وعندما يبحث عن فضاءٍ أرحب لقصيدته ليحرر أبياتها من قيود النهاية، فإنه لا يجد إلا التدوير في أبياتها ليتماهى البيت مع ما بعده دلالياً، فيصنع ربطاً نصياً رائعاً بين أجزاء قصيدته موظفاً آليات الكتابة الشعرية الحديثة ومعطيات علم اللغة النصي في تشكيلاتٍ إبداعية، وهندسةٍ بنائيةٍ فريدة.
ومن خلال ذلك كله، ندرك أن العلاق منفردٌ بقصيدته دون أن يغترب بوعيه الشعريّ أو يقيده أو يحده. يتعامل مع قصيدته كتعامل العاشق مع من يعشق، وندرك في نهاية الأمر أننا أمام شعرٍ مستمدٍ من الطبيعة والتاريخ والواقع والحلم والألم والصبر والشوق والعذاب. إنه شعر اللحظات والمواقف الإنسانية، ودلالات الحياة والوجود.
والمتأمل لهذا الكتاب يرى أن السّمة الشمولية التي ينطلق الكتاب من خلالها هي التنوع، هذا التنوع يضفي عليه بهاءً وألقاً وجاذبية، فهو يتوزع على ثلاثة محاور: المحور الشعريّ، والمحور النقديّ، والمحور الإنسانيّ وعلاقته بالإبداع، وكل محورٍ يمثل ركيزةً أساسيةً من ركائز المنظومة.
ففي المحور الأول، وهو دراسة الخطاب الشعريّ عند العلاق، تطالعنا معايشته للتحولات الشعرية والحياتية، فنحس أننا أمام شاعرٍ متفردٍ حقاً. على مستوى التشكيل اللغويّ الجديد، والمعجم الشعريّ الخاصّ، وقضايا الإيقاع الصوتيّ وتشكيلاته المميزة، إضافة الى ذلك تواجهنا أسئلة العلاق المستفزة، وتوظيفه لعناصر التراث الإنسانيّ وسيميائياته وترميزاته وإحالاته، تطالعنا أيضا قضايا المرأة الأنثى و الحلم والوطن والحقيقة والأمل، في تشكيلات شعريةٍ شديدة الجاذبية.
أما المحور الثاني فيمثل ركيزةً مهمةً في هذا العمل، هو العلاق صاحب الانتباهات النقدية التي تؤكد وعيه وتميزه. يعرف للغة النقد خطورتها، ومتعتها القرائية، ويتجسد هدفه البنّاء وموضوعيته الجادة، ومنهجيته التي أفادت من حساسيته الشعرية، ومن ممارساته الأكاديمية أستاذاً جامعياً مرموقاً، كما أفادت من حسه الإنسانيّ وخبرته الحياتية المتنوعة.
  لقد خلق كل ذلك مزاجاً نقدياً فريداً لا يتماثل مع غيره من الشعراء النقاد، فثمة خصوصيات في تجربة العلاق جاءت من تفاعل الشعر والنقد عنده، خلق لنفسه من خلالها مسلكاً نقدياً خاصاً غير مقيد بآليات النقد التقليديّ المتعارف عليها؛ ليكتشف في النهاية أبعاداً قـد لا يصل إليها غيره من النقاد.
 سنقف كثيراً أمام رؤيته الثاقبة لعملية التلقي عندما يضعنا أمام مجموعة من المنطلقات المنهجية التي يفسر بموجبها الاستقبال الفرديّ أو الجماعيّ للنصوص تارة، واستقبال النخبة أو العامة تارة أخرى، صورةٌ مثيرةٌ للتأمل. و في نهاية الأمر يواجهنا اليقين، أن العـلاق الناقد لا يقلّ ريادةً عن العـلاق الشاعر.
أما المحور الثالث وهو المحور الإنسانيّ، فيمثل لوحةً بالغة الخصوصية، من خلال تلك النزعة الإنسانية الرحبة التي تنساب شفافيةً وخصوبةً وصدقاً ووفاءً وروحاً سمحة. يحبه عارفوه ويذكرون له فضله وأدبه الجم، صاحب حضورٍ شخصيٍّ فريدٍ ومرهف، وصاحب قصيدةٍ لا تشبه أحداً سواه.
وأخيرا نتقدم بالشكر كله إلى هذه الأسماء الكبيرة، شعراء ونقاداً؛ لما قدموه من إضاءات وشهادات شعرية ونقدية عن هذا المشروع الإبداعي المتميز للشاعر العراقي علي جعفر العـلاق، الذي انطلق من “واسط” العراقية إلى الآفاق والفضاءات الرحبة الممتدة في نفوسنا امتداد وطننا العربي الكبير..
العين، الإمارات
6-6-2011