الشاعر الحقيقي هو الذي ينمو على مهل 

حوار أجراه: عمر أبو الهيجاء …
 كيف يستطيع ألشاعر أن يغيّب ما يختزنه من ثقافة عن سطح قصيدتة ليحولها الى عافية داخل النص كما  تقول في أحدى حواراتك   ؟
-سؤالك هذا يحيلني الى عبارة مشهورة قالها الشاعر الفرنسي مالارميه: النمر قطيع من الخراف المهضومة ، و اذا كانت هذه العبارة يتمّ تداولها غالبا في إطار ألحديث عن التناصّ فإنها تصلح هنا لتوصيف الصلة بين ثقافة النص وثقافة الشاعر ، او الكاتب  عموما ً .
القصيدة إذن, نمرمن لغة وحنين واجتهادات ادائيه ,واقتراحات  لبناء فكرة ما،أو إحساس ما, وهي ايضاً هذا الخليط الممتع , والقاسي, في لحظة انصهار بالغ الرهافة، يجمع ثقافة الشاعر ومهارته وعذوبته الجمّة وقراءاته المنسيّة واليقظة.
وحين ينحرف أحد هذه المكونات خارج عملية الانصهار يتعرض النص الى جرح بليغ لايمكن معالجته. وربما تمثّل ثقافة الشاعر او قراءاته الطافية على السطح أكثر انماط الأذى الشعري وضوحاً، وربما اكثرها فداحة ايضا ً .
باختصار ، الشاعر الموهوب والمثقف والحالم ، والمقبل بشراهة على ذاته وعلى الكون بعدّة مكتملة ، هو القادر على كتابة نصّ شعري مثقف وعصيّ على الانفصام ، نص شعري تكون ثقافته مصدر شعريته ، وتكون جماليته مبعث ثرائه الدلالي والرؤيوي معا ً .
الطفولة لها ارتباطات وثيقة بالشاعر والمبدع . ماذا عن طفولة الشاعر فيك ؟
– أعتقد بعمق ، ان لا إبداع حقيقيا ً دون طفولة حقيقية . إنها مصدر الدهشة في النـــــصّ ،  ومصدر الابتكار فيه ، وهو أيضا ً ما يسري في ثناياه من سيولة لغوية ، ومشاكسة للمنطق ، والذهنية الباردة. وأخيراً فإنّ الطفولة التي أعنيها ليست مرحلة زمنية ، إنها إحساس حر، ومزاج طري ، ثاقب ، وفيض من الخيال الطلق ، والانبهار الحيّ بالعالم ، واشيائه ، وكائناته ، وفجائعه ، ومخبآ ته .
الشعر ابن الدهشة ، التي لا تكمن الا في هذه الطفولة التي ترافق الشاعر ، وتسكن خلايـــــاه، وتضفي على بلاغته واجوائه ولغته نكهة خاصة : براءة متوحشة ،  او مزاجا ً طفوليا ً يعبث باللغة أو تعبث به ، ويجعل الشاعر في منجاة من شيخوخة المخيلة ، ويقي لغته من تصلب الشرايين .
إن من يقتفي أثر الطفل في داخلي ، سيجد أن الاهتداء إليه اكثر يسراً من عملية التنفس للانسان المعافى . نصوصي ، ودون مغالاة تفصح ، لمن يتأملها عن مخيلة طفولية ، متجذرة . لقد نشأت قصيدتي نشأ ة  شعريه فيها الكثير من مجافاة المنطق ، والتجريد الذهني ، وضجيج الموضوع و مباشرته .
كشاعر عراقي ، كيف تقرأ القصيدة العراقية – ان جاز التعبير – في ظل الاحتلال ؟
-لقد أرتبطت الشعرية العراقية ، حتى في تفجّر حداثتها الأولى ، بالهمّ العام . وهذا الحكم قابل للإستثناءات بطبيعة الحــــــال ، غير أن هذه الشعرية لم تعرف ، تقريباً ، الفصل الحاد بين المغامرة الحداثية والهاجس الاجتماعي والسياسي.
والمشهد الشعري العراقي اليوم لا يشذ ّ كثيراً عن هذا التاريخ الشعري ، فالشعراء العراقيون ، في عمومهـم ، مشغولون بهذا التصدع الكارثي الذي يعانيه المجتمع العراقي ، وما زرعه الاحتلال فيه من بذور الشقاق والفتنه ، ويجب أن لا نخدع ببعض الأصوات, وهي قليلة على اية حال ،
التي تحاول النعيق بين الجثث والأنهار العمياء .
أما على المستوى الجمالي ؛  فالقصيدة العراقية ما تزال في موقع متقدم من المشهد الشعري العربي كما أعتقد ، رغم الواقع الذي يعيشه الشعراء العراقيون المنفيون داخل وطنهم وخارجه ، وفي منافيهم القديمة والجديدة على حد سواء .
الشاعر العراقي بشكل عام  . مسكون بالتراث والمادة التاريخية التي وظفها بأشكال عدة في نتاجه الأدبي ، كيف استطعت ان تستنطق هذه الموروثات الدينية والتاريخية لتواكب اللحظة الراهنة ؟
-يفترض بالشاعر أن يكون مغروساً بقوه في تراثه القديم ,كما يكون مغروساً ,بالقوه ذاتها , في عالمه الراهن . ان الصله بين الشاعر وتراثه مظهر من مظاهر الحداثه الحقة ,وليس ببعيدة عنا تلك المقالة البارعة لأليوت عن التراث والموهبة الفردية .
لقد وجدت , كما وجد كثيرون غيري , في التراث بتجلياته المختلفة , مادة وتقنيات ورؤى لانهاية لخصوبتها وتفردها . وكان الموروث الديني والأسطوري والخرافي والشعري قد أمدني بالكثير من الجسور أو المفاصل التي تربط بين الماضي والحاضر , وتوفر لقصائدي مايجعلها مفتوحة على الماضي كله , ومتورطة في الحاضر كله ايضاً . قد أبدو احياناً وكأنني أاصغي الى الموروث العراقي الموغل في القدم اكثر من سواه . قد يكون ذلك صحيحاً الى هذا الحد أو ذاك , وفي هذه المجموعة الشعرية  أو تلك . غير أن التراث عامة كان عوناً للكثير من نصوصي لتنجز مهمتها الشعرية او الدلالية بطريقة شيقه ومؤثره .
يظلّ صحيحاً القول إن التراث الرافديني الموغل في قدمه وفجائعيته وفرادته أكثر هذه التراثات قرباً من هاجسي الشعري , وانهماكي في هذه اللحظة العراقية بالغة التوتر وبالغة الدلالة ايضاً. حين أستخدم هذا الموروث الرافديني الفريد في رؤياه وتنوعاته واشكاله احس ان العراق يستنهض بعضه بعضاً ,وان شراسة الحاضر تستدعي مثيلاتها , إن اساطير مابين النهرين جسدية , كارثية , رائدة , تفيض بالقداسة والموت والبطولات ,ويكون الانسان فيها مسكوناً بالألوهة كما ان الآلهه نفسها مشوبة بخطايا البشر . وأعتقد ان ميراثاً اسطورياً كهذا اكثر ملاءمة من سواه ربما للتعبير عن هذه اللحظة العراقية الفريدة في غرائبيتها التي لاتضاهى بكل المعايير , وعبر الأزمنه كلها ربما .
ثمة خسارات كثيرة ، وفقدان ولوعة وانتعاش في سهول قصيدتك . هل أنت ابن لهذه الخسارات وهذا الفقدان ؟
– يبدو لي دائماً أن الشعر نفسه ابن للفقدان والخسارات . وأرى ايضاً ان للقصيدة لحظتين مثاليتين تنشط فيهما مخيلة الشاعر او ذاكرته : لحظة الحلم ولحظة الفقدان ، أما لحظة التملك أو الاستماع أو السعادة المكتملة فهي للعيش واستثمار الحلم ، نكون خلالها مشغولين بها لذاتها ، لما فيها من لذة ، وارتواء, ولسنا ميالين ، أو قادرين على الشهادة عليها شعرياً ، ألا بعد أن تختفي أو تغدو خسارة ، او فردوساً مفقوداً ، أو ذكرى .
لا أظن بأن الفرح الغامر قادر على ان يكون محفزاً شعرياً الا في حالات شديدة الندرة ربما .
انا شخصياً لا يحضرني مثال يعتد به كثيراً لعمل شعري مرموق كان الفرح أو السعادة دافعا لكتابتـه .
ولهذا يمكننا أن نجد تفسيراً لتقليد المقدمة الطللية ، وهي تقليد شعري راسخ كما تعلم , فالشاعر الجاهلي لم يقف امام بيت حبيبته، تلك الوقفة الشجيّة، ألا بعد ان اصبح بيتاً ممحوّاً ، او ذكرى امرأة ، لم يكتب عن لحظة جسدية ماثلة, أي أنه لم يكتب الا نادراً عن إمرأة تتوهج بين ذراعيه .
لذلك كله ، كانت اللحظة الطلليه التفاتاً الى زمن لذائذي ، جسدي ، عامر بالغبطة بعد ان تولىّ ولم يعد موجوداً . ومن هذه النقطة ، فإنّ سؤالك يظل صميمياً الى حد كبير ، فالقدحة الشعرية   الأولى في الكثير من كتاباتي تنطلق من لحظة الشجن ، او لحظة الحنين الى فردوس احلم  بعودته المستحيلة .
يقال بان الخطاب النقدي العربي , وأنت الناقد ايضاً , ينطلق من المنهجية الغربية ومدارسها. هل ثمة منهجية للنقد العربي , وكيف تقرؤها ؟
– مرّ النقد العربي ، خلال العقود الثلاثة الاخيرة ، بتحولات جذرية ، انتقل فيها الوعي النقدي الى مستويات مفهومية لم يكن على دراية سابقة بها ، كما ان الممارسة النقدية العربية قد دخلت فضاءات اجرائية جديدة  . ومن المؤكد ان هذه التحولات ، في المفاهيم والممارسة ، ما كانت لتتم بهذه الكثافة وهذا العمق لولا التفاعل مع ثقافة الآخر ، ومناهجه النقدية ومقترباته في التحليل . وأنا هنا ما أزال اتحدث عن الجانب المعافى والجميل من علاقتنا بالفاعلية النقدية الغربية وما يقف خلفها من منهجيات .
غير ان ما ينبغي الأشارة اليه أن المظهر السلبي لهذه الصلة بالنقد الغربي تمثـــّل في الانفعال به لا التفاعل معه . حقاً لدينا نقاد كبار بكل المقاييس ، لدينا نقاد مكتملون في الأداة والمنهجية والانجاز ، غير ان ذلك لا يحجب عنا الحقيقة وهي انهم قليلون قياساً الى شريحة واسعة تمثل الانفعال بالنقد الغربي : يرددون وصايا نقاده ، ومقولاتهم دون استيعاب عميق احياناً ، وبافتتان المبهور والمتعبد احياناً اخرى . ويكاد النص الابداعي ان يضيع بين أيديهم ، فهم مشغولون عنه بالتعليمات النقدية ,وضبط خطواتهم على خرائط وموجهات يطبقونها تفصيلياً، ودون اجتهادات فذة ، او مرنة على الأقل  .  انهم مشغولون بالمنهج لا بالنص ، وبالوصايا والخرائط والجداول والاحصاءات لا بمفاجأت العمل الابداعي ، ومسارات نموّه ، وتوهجاته الدلالية والاسلوبية ، حتى ان النص يختنق ، او يكاد ، بالانشغال بقشرته ونموذجة اللساني في احسن الفروض ، دون غوص وراء الذات الملتاعة او المنتشية التي أنجزته . ودون احتفاء بتلك المشيمة اللغوية والوجدانية والفكرية التي تربط النص بكتله الحياة العامة من جهة ,والذات
المبدعة من جهة اخرى . ان هذا المسلك النقدي قد يؤدي الى نتائج أكثر جدوى لو خفف قليلا ً من هذه التبعية المؤذية لبعض المناهج الغربيه والاقتفاء الحرفي لمنجزها الاجرائي . ويبدو ان
هذه الظاهرة تتفشى في بيئات نقدية اخرى ، حتى ان  (تودورف)  نفسه يعبر عن صدمته لما وصل اليه التطبيق الحرفي ، الضيق في النقد الفرنسي مؤخراً . وكان هذا الواقع النقدي محور كتابه المثير : الأدب في خطر .
وبين هذين الاتجاهين ثمة اتجاه ثالث ، يتمثل في الرحابة المنهجية, التي ترى المنهج النقدي افقاً لا جداراً ، ولايتردد هذا الاتجاه في الافادة ممايقترحه أي  منهج مجاور من امكانات تعين على الاقتراب من النص وملامسة مضمراته الخاصة والعامة ، بعد ان افصح عنها النص عبر مكوناته البنائية وتموجّه الايقاعي .وقد نجد ، ضمن هذه الحاضنة المنهجية الرحبة ، نقاداً يتوفر في منجزاتهم النقدية ما يرقى بها الى مستوى الابداع : لغة جسدية متوترة ، واداء حميم يحفل بالمجاز حيناً ، ودفء الذات حيناً أخر .
 المتتبع لمنجزك الشعري , يلحظ في قاموسك الابداعي ثمّة مناخات وطقوساً جديدة وإن شابها تكرار بعض المفردات . ماخطورة ذلك على طقسك الشعري ؟
– أميل الى الاعتقاد دائماً بأن الشاعر الحقيقي هو ذلك الشاعر الذي ينمو على مهل ، أو على نار هادئة ، كما يقول التعبير الشائع . لا اطمئن كثيراً الى الشعراء الذين يقفزون خارج
مناخاتهم ونبرتهم الخاصة بين مجموعة واخــــــــــرى . هذه القفزة ستكون في المجهول,أي  في فراغ  أسلوبي ونفسي  . لا بد للشاعر ان يؤسس نبرته الشخصية ، واجواءه الحميمة التي تدل
عليه ، وتوحي به .
ويمكنني القول ودون تواضع كاذب, إنني عكفت على قصيدتي بحنو وحرص شديدين ومنذ بداياتي الاولى ، الأمر الذي جنبني منزلقات شعرية كثيرة تعرض لها شعراء عديدون ، ومن أجيال شتى ، كضياع الملامح الخاصة ، وتقليد الكبار ، والمباشرة ، وترهل النص والاستطرادات الفائضه عن الحاجة ، واللغه الذهنية وضمور الوجــــــدان …… وقد انجزت ملامحي هذه وسواها دون قفزات بهلوانية ، أو هوس بالتجريب ، أو عبث شعري لا جدوى منه . لقد حققت ذلك ضمن شخصية شعرية لا يخطئها المتأمل :  لها مناخاتها الخاصة ، ولها وعيها بالتراث وبالحداثة دون ادعاءات ، ودون قصور ايضاً .
وأنا احرص دائماً على أن يكون تطوري ضمن المناخ والخصائص التي تحدثت عنها ، وأن تغتني قصيدتي بتفاصيل جديدة, والتماعات اضافية دون أن تجنح بعيداً عن شخصيتي الشعرية وملامحي البلاغية ، والاسلوبية ، والانسانية التي صارت تميزني عن سواي ، وتمنح نصوصي نكهتها الخاصة, كما أنني أسعى بأستمرار الى أن يكون لمنجزي الشعري تموّجات النهر الواحد ، وأن يكون في منأى عن دبيب الجداول الجانبية التي قد تكدر هذا النهر ، وتشتت تجانسه.
الشاعر اذا وصل ذروة الابداع ,هل يتنحّى جانبا ويتكئ على موروثه الابداعي ؟
– لا يوجد في مجال الابداع ، كما أظن ، نهايات أو قمم أخيرة يصلها الشاعر ثم يعلن تقاعده أواعتزاله ، إن الشعر رحلة متصلة ، بالغة التشابك والتعقيد ، وليس فيها نقطة وصول أخيرة كما يحدث في مسابقات القوى البدنية .
إن كل منجز جديد ، في الشعر ، يباعد بين الشاعر ومبتغاه ، ويزيده اصراراً وتلهفاً وجنوناً لمواصلة مسيرته صوب قمة مفترضة, أو هدف لامرئي يزداد ابتعاداً .  وهكذا يتكشف للشاعر ، مع كل قصيدة جديدة ، عجزه عن الاكتمال الصعب مما يضعه في رحلة شاقة ، ممتعة ، ومحفوفة بالمفاجآت ، يحاول فيها تجاوز ذاته دائماً .