الشاعر ابن تجربته وأبو منجزه الشعري 

حاورته: روز جبران
-لتكن بدايةً حديثنا عن سبب اختيارك لعالم الكتابة والشعر على وجه الخصوص .
-لم يكن هذا الطريق اختياراً محضاً. ولم يكن راجعاً الى وعيٍ يمكن تلمسه. ثمة ما يشبه القدر، أو يقاربه، تحكّم في حياة الصبيّ الذي كنته وحتى هذه اللحظة. وكان يقـدم له، في كل مفترقٍ من حياته، ما يغريه ّبالتورط في هذا العالم المدهش الجميل.
-عن البدايات وأول الطريق ودهشة الحبر الأولى؟ 
كثيرةٌ هي البدايات. لكنّ الإحساس، إحساساً غامضاً، بلذةٍ، غامضةٍ لكنها مؤثرة وتصدر عن قولٍ مخصوصٍ كان واضحاً لديّ منذ بدأ والدي يعلمني القراءة والكتابة. وهذا القول المخصوص قد يكون قصيدةً، أوأغنيةً، أومثلاً شعبياً، أو حتى جملةً. محاولاتي الأولى كانت في مجال القصيدة العامية، وأنا ما أزال في السنة الأخيرة من الدراسة الابتدائية.
وكانت المرحلة الأخرى، والأكثر وضوحاً، هي تعرّفي على مظفر النواب وجبرا ابراهيم جبرا. يومها كنت في مرحلة الدراسة الإعدادية. ثمة وعيٌ جديدٌ بالشعر وكتابته، بدايةٌ واضحةٌ للنشر، العاملون في النفط، التي كان يشرف عليها الراحل جبرا ابراهيم جبرا، مجلة الأقلام، الجرائد اليومية.
ما أزال أتذكر قصيدتي الأولى، في مجلة “العملون في النفط” والتي كانت نقطةَ تحوّلٍ في علاقتي بالصحافة الأدبية آنذاك. كانت قصيدتي أول قصيدةٍ في العدد، مع أن العدد كان يضم شعراء أقدم تجربةٍ مني مثل إبراهيم الزبيدي وراضي مهدي السعيد. كانت تلك المجلة، عكس اسمها الذي يفتقر الى الجاذبية، تحظى بسمعةٍ أدبيةٍ رفيعةٍ، بين جيل الستينات بسبب نهجها الحداثيّ، ومايتمتع به جبرا نفسه من كاريزما أدبيةٍ وإنسانيةٍ مؤثرة.
-كيف تتحدث عن تجربتك باختصار؟
-ولدت في قريةٍ في جنوب العراق، وكان أبي فلاحاً لا يجيد حراثة الأرض قدر إجادته  القراءةَ والكتابةَ ولباقةَ الحديث. وهي حالةٌ لا تخلو من مفارقةٍ شعريةٍ في مجتمعٍ ريفيّ تحكمه الأميةَ وشظف العيش. كان، كما أصفه دائماً، أكثر من فلاحٍ وأقل من مالك أرض.  كان له، ولوالدتي بعد وفاته، تأثيرٌعميقٌ على حياتي. هاجرنا الى بغداد في عمرٍ مبكر.وأكملت فيها مراحلي الدراسية الأولية والجامعية. ثم أكملت دراستي العليا في جامعة إكسترالبريطانية.
كانت المفردة العامية مدخلي الأول، كما قلت، الى عالم القصيدة، غير أنني لم أطل المكوث عند هذه المرحلة، فقد تجاوزتها سريعاً الى القصيدة العمودية لتي حاولت كتابتها بطريقة مشاكسةٍ للسائد من نماذجها، تميزني عمن كان يكتبها من أبناء جيلي.
بدأت كتابة القصيدة الحديثة، أعني قصيدة التفعيلة، في بداية السبعينات، وقد صدرت مجموعتي الأولى ” لا شيء يحدث ..لا أحد يجيء” عام 1973 عن دار العودة ببيروت. وأثارت  الكثير من ردود الأفعال لما فيها من جرأةٍ في اللغة والاستخدام المتطرف للصور الشعرية. حظيت تجربتي الشعرية والنقدية باهتمامٍ نقديٍّ وأكاديميٍّ كبير، فقد كتب عنها أكثر من عشر رسائل جامعيةٍ في العراق وخارجه، وحوالي ثمانية كتبٍ لنقادٍ عرب وعراقيين..
صدرت مجموعتي الأخيرة ” وطنٌ يتهجّى المطر، قبل عامٍ عن المؤسسة العربية للدراسات ببيروت. كما صدرت أعمالي الشعرية بمجلدين عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، 2013، وعن دار فضاءات في عمان، 2014.
   ترافق لديّ، ومنذ البدايات تقريباً، كتابةُ القصيدة والمقالة النقدية. وكنت على حذرٍ شديدٍ من أن يجور النقد على القصيدة فتفقد دفئها ونصاعتها وتبلغ ذبولها الحتمي، وتكف المخيلة عن ارتجال المفاجآت الشيقة، كان يرعبني مصيرُ بعض الشعراء الذين جمعوا بين الشعر والنقد، حين صارت قصائدهم أخيراً تذكرنا بشعر الفقهاء أو علماء النحو.
–  ماهي القصيدة الشعرية التي تطمح إلى كتابتها ؟ 
حاولت دائماً أن يكون لي ما يميزني عن شعراء جيلي، أن تكون لي قصيدتي الخاصة، وأسلوبي الخاص في توظيف اللغة والصورة وبناء المعنى. لقد كنت وما أزال شديد النفور من مألوف القول الشعريّ.
 لا يسعدني أن تستمد قصيدتي قيمتها الشعرية مما تسعى الى قوله، بل من طريقتها في قول ما تقول. من لطائفها، ومفاجآتها، ومشاكستها للغة. لا أعوّل كثيرا على قصيدةٍ تسعى الى دلالتها جرداءَ عاريةً من نعمة المجاز ومجازفاته المدهشة. كما أنني لا أكف عن تصفية القصيدة، لغةً وبناءً، قبل أن أدفع بها الى فضاء التلقًي العام  .
-حسب قول كونتر غراس : على المثقف أن يقف دائماً إلى جانب المهزوم، ما هو برأيك دور المثقف العربي، لا سيما في المحن أو في المنعطفات الكبرى، وكيف تقوم أداءه في مرحلة ما سمي بالربيع العربي ؟
-هذا افتراضٌ رائع، غير أنّ البراهين على حتميته قليلةٌ الى درجةٍ مخيبة، لاسيما في ثقافتنا العربية الآن. نحن أمةٌ مبتلاةٌ بوفرةٍ من المآسي والانهيارات التي تصلح لاختبار المواقف، وبلورة الفروق الناصعة التي لا تدحض بين ثقافة الموقف والفعل وثقافة الذاكرة. أعتقد أن ثمة دوراً للمثقف العربيّ العضويّ لم يُملأ كما ينبغي .
-ما الأسباب التي تؤدي إلى تراجع الفكر في العالم العربي ؟ يقول أحد المثقفين ك الذين يمكن وصفهم بالمفكرين في هذا الزمان لم يصل عددهم لعدد الدول العربية مجتمعة ، ما الدوافع الكامنة وراء ذلك؟
-من الصعوبة، كما يبدو، وجودُ فكرٍعميقٍ، وثقافةٍ حيةٍ في مجتمعاتٍ تقوم على القبلية، أوالطائفية أو الأيدلوجيات الشمولية، لأن الفكر والثقافة تاريخيان،لا ينشآن في فراغٍ أعمى، وبمعزلٍ عن الزمان أو المكان. فهما في حركةٍ من الجدل العميق مع مجتمعاتهما، يطورانها ويتطوران معها.
في أمةٍ كاللأمة العربية تتناوشها الأديان والمذاهب والطوائف والملل والبلدان، كيف يمكن صياغة أو الوصول إلى مجتمع مدني ديمقراطي حر، دون الوقوع في أفخاخ التقسيم والحروب الأهلية المعدة سلفاً مثل مجتمعاتنا، ناهيك عن القوى الكبرى التي تتربص بنا كمجتمع عربي ؟
-كان يمكن أن يكون لهذا التنوع في المكونات دورٌ إيجابيٌّ يطبع مجتمعاتنا بالديناميكية، وروح التمرد ولابتكار، والنزوع الى الحرية. وأن يضع الأرضية النفسية والحضارية للمجتمع المدنيّ الذي تشيرين اليه، غير ان شراسة الأنظمة وتبعيتها، حولتْ ميزةَ التنوع والخصوصيات هذه، وبمعاونة المستعمر أوالمحتل، الى خرابٍ شاملٍ، عبث بحياتنا ومستقبلنا، حتى أصبحنا شعوباً مهجرةً ومهاجرة. وعملت على تهشيم شخصية الفرد، وإفراغها من الأمل والطموح والثقة. وجعلت منه كياناً هشاً، وذاتاً يسكنها الجبن، واليأس، وتملق الحاكم ورموزه.
وهكذا تعطلت لدينا طاقة الفعل والمبادرة الخلاقة. وبمرور الزمن وتراكم عهود القمع والتدجين، صرنا على ألفةٍ، تماثل الإدمان، مع ما نحن فيه من إذلالٍ وتهميش. وأكاد أقول إننا شعوبٌ تصنع طغاتها بأيديها، وكأننا لا نستطيع العيش بعيداً عنهم. كل شيء لدينا مستورد إلاّ حكامنا، فهم من صنعٍ محليٍّ بالغ الرداءة.
-إذا اعتبرنا أن الأدب العربي يمر بأسوأ مراحله من حيث استسهاله والتطاول عليه والإقلال من مضمونه وسعي كثير من الكتّاب نحو الجوائز والنجومية السريعة لا سيما في خضم اجتياح المواقع الإلكترونية فأصبحت الكتابة مستباحة ولم يعد ثمة معايير حقيقية ملموسة واضحة، كيف يمكن حماية الأدب الحقيقي والكتابة الحقيقية، وكيف يمكن بالتالي إيصال هذا الأدب الجيد الحقيقي إلى القراء؟ 
-مشهدنا الأدبيّ يحفل بالكثير من المنغصات، والظواهر التي لا تمت الى الابداع بصلةٍ وثيقة. لدينا شعراء عدد الرمل والحصى، ينبثقون كما الكمأة، ونجومٌ يتصدرون المشهد لا بفعل الموهبة الخلاقة، بل بفعل الشطارة، وتسويق الذات، وانتهاز الفرص .
ولا يتم مواجهة هذه الظاهرة بسرد قائمة من المطالب. هل أقول لابد منّ الارتقاء بالذائقة العامة، والتأسيس لوعيٍ حقيقيّ لا تجوز عليه بضاعةٌ ادبيةٌ مغشوشة، وتحصين الحياة الثقافية وتنقية مؤسساتها من عديمي الموهبة. ولكن ألا أبدو وكأنني أنتظر المعجزات؟ ألا يبدو كلامي هذا وكأنه ضربٌ من العبث التام
-من هم الشعراء الأكثر تأثيراً في تجربتك وما هو موقفك من فكرة الأبوة في الشعر؟
-لا أبوة في الإبداع، فالشاعر الحقيقيّ هو ابن تجربته وأبو منجزه الشعريّ، وهو  بدايةٌ جديدةٌ دائماً، بالقياس على تجربته الشخصية وتجربة من سبقوه. وهو تمهيدٌ لما يأتي وإضافةٌ الى ما تـمّ إنجازه. كما أن الشاعر الحقيقيّ لا يحتاج الى آباءٍ، ولا أبناء له، إلاّ بمعنى الانتماء لروح الابداع وتجلياته في كل زمانٍ ومكان، والاندفاع في أفقٍ مفتوحٍ عصيٍّ على الاكتمال.
-كيف تنظر إلى مسألة إغلاق بعض الملاحق الثقافية مؤخراً، بل وصل الأمر إلى إغلاق صحف بعينها، كيف ترى ذلك المشهد ؟
-هي الجزء الظاهر من ظاهرةٍ أكبرَ وأقسى. أعني موقف الدولة من الثقافة والمثقف، وموقعهما في سلم أولوياتها. إن معظم الأنظمة العربية لا ترى في الثقافة  ومؤسساتها إلاّ ديكوراً للإبهار وتزويقاً  لشكل الدولة ومجسماتها الفارغة من المعنى..
-هل المثقف العربي محكوم بسلطة ما سياسية أو دينية أو اجتماعية وما عليه أن يفعل في مواجهة ذلك ؟
-إن هذه الأنظمة لا تجد في المثقف، غالباً، إلاّ ذلك الفرد الأعزل، والمغلوب على أمره. الذي يسهل شراؤه وترويضه وتشغيله لحسابها كأية عمالةٍ رخيصة. فهذا المثقف، إلاّ نادراً، تابعٌ للدولة مضطراً أو مختاراً، يشارك في مفردات سلوكها اليوميّ ويعيش على هباتها وامتيازاتها الوفيرة، أوجزءاً من جوقتها الإعلامية التي تسوقها أمام الناس، قد يعترض عليها في السر لكنه يباركها في العلن. وفي بلدانٍ عربيةٍ يسحقها الفساد والقتل والفوضى، يأخذ المثقفُ مكانه اليوم في اصطفافاتٍ طائفيةٍ وعرقيةٍ وإثنيةٍ ضيقة، متنازلاً عن ضميره ّالإنسانيّ والوطنيّ والثقافي.
-كلمةً أخيرة ومفتوحة للشاعر علي جعفر العلاق ؟ 
-رغم ما يحيط بالشعر من صعوباتٍ محزنةٍ وكثرة الدخلاء والطارئين عليه، فإنه يظل فـنَّ الأقلية الهائلة، الذي يحرر نفوسنا من اليأس والضغينة، ويجعل إحساسنا بالحياة أكثر رُقِيـِاُ ..