ذاهب لاصطياد الندى 2016

مختارات من الديوان

 شـبيهٌ بـأوّل هــذي البـلاد 

 

الى علي جعفر العلاق
أيّنا كان مـرآةَ صاحبهِ ياصدايَ الحميمْ ؟
أيهـذا الذي  يتمشّى معي، ويشاركني النـومَ
يقـظانَ، نمضي معـاً لنهار الهشاشةِ
أو لحظة الطيشِ ..
يحرسني من جنون النقيضينِ :
من ضجّة الضوءِ أو وحشة العَـتـَمَةْ ..
ويقاسمني  نشوتي، أو شروديَ في زحـمةِ الناسِ ..
لـولاكَ ما كان لي جسدٌ أو رمادٌ،
ولـولايَ لستَ سوى
كـلِمةْ ..
عاريـينِ هبطنا على هـذه الأرضِ ..
ما عدتُ أذكـرُ:
أيّ أتى قبل صاحبهِ؟
أنتَ أقبلتَ منتشياً من نهارِ الكـلامِ، ومن لغـةٍ
يتعافى بها الناسُ من يأسهم
وأنا جئتُ من ظلمات الجسدْ
أنت، من قبل أن نلتقي، لم تكن غير فاصلةٍ
لا تشير إلى أحـدٍ، وأنا كنتُ
كالحلمِ، أولا أحـدْ ..
 
وكبرنا معـاً ..
صافيـينِ،  كهـذي الفلاةِ النظيفةِ
ما زلت أذكـرُ:
كاد يطيرُ بنا الماءُ في مهرجان تخبّـطهِ
ليلةَ الفيضانِ ..
تُـرى، لو مضى النهر حتى يتـمّ  حماقتهُ،
أيّـنا كان يبـلغُ أقصى النهاياتِ ؟
أيٌّ سيبقى رهـينَ الـزبـدْ؟
 
لـم أزل أتذكـّرُ كيف التقيتكَ ..
حاولتُ أن أرتـقي التلّ، ما كـان لي غـير نايٍ وحيـدٍ
يعـذبني كـلما مرت امـرأةٌ ..
كـلما بُـحّ صوت الخـريفِ
 من النوحِ ..
 
ما كان من أحـدٍ :
كل شيءٍ بدا دونما صفـةٍ
ليس للـذئب إسـمٌ  
ولا اسـم للموتِ أوللشجرْ ..
كان آدمُ  يُصغي إلى اللـهِ، وهو يعلـّمُهُ
كيف يدعـو الحصاةَ حصاةً
وكيف يسمّي البشـرْ ..
 
حـين ناولني سـلّة الخوصِ ريانةً
قـال لي :
لـك هـذا العـذابُ،
وهـذا التشهّي، لـك اسـمٌ
شبيهٌ بأولِ هـذي البـلادِ وآخـرِها..
لـك هـذي الإقـامـةُ : أعني السـفـرْ ..
 
قال لي :
محنةٌ أن تكون أقـلّ حـياةً من اسمكَ
أوأن تضيّـقَ، يـوماً، مداهْ
نشـوةٌ أن تـردّ الذئابَ عـن اسمكَ مخذولةً :
ليس بين مخالبهنّ سوى قشرةِ الضوءِ،
ليس سوى ريشةٍ مـن صداهْ ..
 
ومضينا معـاً..
كـم سهرنا على بعضنا تـوأمـينِ طـريـينِ كالغـيـمِ ،
كـم كنتَ تحـرمني مـن خطايايَ ..
كـم كنتُ أحميك منّيْ :
أمشّـط أيامَـك البيـضَ ..
أغـمر أحزانها  بالحُليّ، أعلّقـها
عاليـاً، فـوق نهـرٍ صغيـرٍ.. صغيـرْ
وطـنـاً قاسياً كالحريـرْ..
 
من طـوى، فجـأةً، هـذه الأرضَ طيّ السجلِّ ؟
هنا جبلٌ، خاشعاً، يتصدّع ..
تلك نجومٌ تَساقطُ سـوداءَ مثل الخفافـيشِ ..
مـاذا جـرى للسماءِ القصيّةِ ..
مـاذا جرى للعـبادْ ؟
مالهم يفتكون بأحلامهم؟
مالهم يفتكون بهـذي البـلادْ ؟
 
آهِ يا صاحبي ..
سأناديكَ من قـاع خـوفي لكي لا تتـيهْ :
تشبثْ بضوئكَ، ليس لـهُ ما يماثله حيـرةً ..
ليس للضوءِ ظلٌّ
وليس  لنبـرتـهِ  مـن  شبيهْ ..
 
عبثاً ينصبون كمائنهم للندى ..
عبثاً يسرقونَ أسامي الينابيعِ ..
هـم ينتمون إلى لا إلى حيرةٍ عاليةْ ..
هي أوّلُ هــذي البلاد وآخرُها..
هي يـأسكَ، أو نـاركَ
الصافية ..

 

كـم كنـتُ أصـغي لهــذا الليـل

كـم كنـت ُ أصغي  لهـذا الليل ِ:
– أيـن مضت ؟
– مـرتْ،  كخفـقـة ريح ٍ، دونما حرس ٍ ..
على الطـريـق رذاذ ٌمـن أنوثتهـا ..
 وفي المدى  مطرٌ في غـير مـوسمهِ :
يـدنـو،  فـتندى له روحي
وتحترق ُ..
 
 كان كلانا يغـذي حزنَ صاحبهِ
منذ التقـينا بلا قـصد ٍ..
ومُـذ كُـسِرت ْأيـامنا كالمرايا  ذات كارثة ٍ ..
ومُـذ  تنااااااءت …
وغامت بيننا الطرق ُ..
ندنو ..
ونفترقُ …
 
تلقـفـتهـا المنافي كلما ابتعدتْ :
أحسّها ملءَ روحي
كلما اقـتربت تبخرت كـدخـان ٍ ..
 
هـل سيعـصمني منهـا سـواهـا ؟
هي الـذكرى
هي الغَرق ُ ..

 

مثلـمـا تـرتـدي امـرأةٌ رجــلاً

مثلما
توقـظ امـرأة ٌ بفـراشاتهـا
العـشـرِ أيامَنا :
هـاهـو الكـونُ
أسـئـلـة ٌ تتقافـزُ هـائجة ً،
وخـريفٌ مؤجّلْ ..
مثلما
تترك الـريحُ بعـضَ
تأوّهـهـا فـوق أحلامـنا
ثـمّ تـرحل ْ..
مثلما
تـرتـدي امـرأة ٌ رجلاً
فـتسيـلُ ذراعـاهُ :
أوديـةً مـن خـيولٍ
ومُـخْـمـلْ ..
هـكذا
تنفضـين الكآبةَ
والقـَـشّ، عـن حلـُمي ..
 
 

حينما يذهـب الليل للنوم

هـو والفجـرُ
كانا معا ًيسهران ْ..
واحـدٌ
قـادماً كان من جهة ِ القـَـش ّ،
تفـاحة الضوء ِ في يـده ِ..
واحـدٌ
صاعـداً كان من لـغـة ٍ
تتبخـترُ مزهـوّة ً كالحصان ْ..
يمضيان معا
ثـم ّ في آخر الدرب يذهب ُ
كل ّ إلى غـايةٍ :
واحـد ٌيحمـل الشمسَ حتى إذا نضجت
بين كفيه ِ ألقى بهـا ..
أيّ نارٍ مقـدسةٍ
يتلقـفها البحر ُمخضوبة ًبالتراتيل ِ
أو بالدخـانْ..؟
 
كان ثانيهما صاحبي ،
كنت أدعـوه طفل الشباك ِالحزينةِ :
يلقي بها جهة َ الـريح ِحينا ً..
ويلقي بها جهة َ البحرِ حينـين ِ ..
حتى إذا أطـفأ المـاء ُ زرقـتهُ ،
وغـدا مثلَ ذئب ٍ يخالطه الليـلُ ..
لــمّ الشـباك وعـاد إلى حُلـْمهِ :
أتـرى جـاء للبحر مـن بعـدِ أن
جُـنتِ  الـريحُ ..
أم جـاء قـبل الأوانْ ..؟
 
هـو والليلُ  كانا معـاً يسهرانْ
ويطيلان عمرهـما بالسهرْ ..
ثـمّ يذهـب كـلّ الى وجْهـة ٍ :
يذهـب الليل للنوم ِ ،
والريح ُتمضي بقـية ليلتها
في أعالي الشجـرْ..
ثـمّ يمضي صديقي إلى جنةٍ لا يـفارقها :
أن تمر الغـزالة ُ مرمى  ذراعـين من حـلْمهِ ،
أن تـعـود البلادُ كما انبثقت ،
أول الخلق ِ صافيةً كخيول المطرْ ،
لا يفرّ أبٌ من  بنيهِ ..
ولا يدرك الـشيبُ حتى
حفـيفَ الشجـرْ ..
 
 
 

ربما … 

ربمـا شحُبتْ لغـتي مـرةً ..
ربمـا وهَـن َ الحُلـْمُ منيْ هـنا أو هـناكْ ..
فتدلّـيت من حبْلهِ الـرخوِ حتى رأيتُ النهاية َ،
لكنما انتفضت في دمي فـجأة ً
شهوة ُ الضوءِ، واعـتدلتْ
قـامتي مثل ساريةٍ
للهـلاك ْ ..
 
ربمـا
فاتني أن أهاجرَ، 
أو فاتني أن أقيـمْ..
ربمـا فاتني
أن يكون الندى حصتي
لا الهشيمْ ..
 
ربمـا
فاتني أن أكون أميرَ الفصول ِ جمـيعـاً ،
أقشّرها واحـداً .. واحـداً ..
أتخـيّر ُمنها الـذي أشتهي :
تــارة ً، والنسيمُ يمـرّ خـفـيفـاً على رِِسْـلهِ ،
أتوسّـد كفـّيّ من غـبطةٍ، وأنــامْ
تاركاً لغـتي للقطا ، 
والحمـامْ..
 
تــارةً ، أرقب الشمسَ نيئـة ً تتعالى
إلى نضجهـا، دون أن يعتريني الضجرْ،
ثـمّ  أغـزلُ من ظلها الـرخوِ
قـبّعة ً للحجـرْ ..
 
ربـمـا ..
ربمــا …
ربمــا ….
غـير أنـيَ مـا كنتُ يـوماً سـوايْ،
أبـوايَ القـديمان كالغـيم ِ..
كـم باركا  شـفتيّ ،
وكـم سـدّدا  للمراثي
خـطـايْ ..
 
كتب عن الديوان

علي جعفر العلّاق الشاعر الذاهب لاصطياد ندى الشعر

    عبدالعزيز المقالح
-1-
منذ أوائل ستينات القرن الماضي والشاعر علي جعفر العلّاق يحث الخطى نحو اصطياد ندى الشعر، يصطفي منه للنشر ما يناسب ذوقه النقدي وذائقته الشعرية العالية. وفي ديوانه الجديد «ذاهب لاصطياد الندى» يستقطر ماء اللغة شعراً عذباً رهيفاً، يجتاز طريقه إلى وجدان القارئ كما يجتاز الأوكسجين طريقه إلى شغاف القلب. والعلّاق من الشعراء العرب القلائل الذين أحبوا لغتهم وعشقوا مفرداتها وأخلصوا في اكتشاف إبداعاتها. وبالمقابل، بادلتهم اللغة حباً بحب وعطاءً بعطاء. وفي أعماله الشعرية السابقة، كما في هذا العمل الجديد تشكل اللغة انبثاقها المدهش، وتؤسس لمستويات جمالية لا حدود لانطلاقاتها أو مدى.
وإذا كان عدد غير قليل من شعراء الستينات والسبعينات المنصرمة، وقف به هاجس الشعر عند مساحة ضيقة تغيب معها كينونة المتخيل الشعري، فقد ظل الشاعر علي جعفر العلّاق يواصل انطلاقته غير مقتنع بما أنجزه حريصاً على التحرر من غواية محاكاة ذلك الإنجاز. وقد كانت لي وقفة مع واحدة من مجموعاته السابقة هي «سيد الوحشين» الصادرة عام 2006، وعندما رجعت إلى تلك المجموعة الآن في قراءة مقاربة سريعة، أدركت أن مساحة واسعة قد قطعها هذا الشاعر في بضع سنوات، وذلك ما يثبت أنه لا يكرر نفسه وأنه يكره الدوران في مسار واحد متشابه على نحو ما نراه لدى عدد من شعراء جيله، والأجيال التي تقترب بداياتها مع ذلك الجيل الذي أضاف جديداً إلى التجربة الشعرية في إطار ما تم التعارف عليه بشعر التفعيلة.
وليس من هدف هذه الملاحظات المقارنة بين قديم الشاعر وحديثه، بل الهدف منها إثبات حقيقة أن نتاجه الشعري يمثل موجات متصاعدة، ليس في مستوى التعبير والتصوير فحسب، وإنما في علاقته العميقة والمتجددة مع اللغة التي أحبها، ولا يكف عن تطويعها وإخضاعها لمزيد من التوهج الشعري:
ربما/ فاتني أن أكون أميرَ/ الفصول جميعاً،
أقشّرها/ واحداً…/ واحداً
أتخير منها الذي اشتهى:/ تارة،/ والنسيم يمر خفيفاً
على رِسْله،/ أتوسد كفيّ من غبطةٍ/ وأنامْ
تاركاً لغتي للقطا/ والحمامْ. 
أي طاقة شعرية باذخة تكمن وراء هذا التعبير المدهش الذي يكشف عن رغبة عارمة في تقشير الفصول، وفي أن يكون الشاعر قادراً على أن يتخير ما يشتهي من مظاهر الطبيعة. ويتجلى سحر هذا المقطع وتفرده في لغته التي يبدو دورها أكثر حضوراً وإضاءة وتمكناً في المقطع الآتي من النص الشعري نفسه:
تارة أرقب الشمس نيّئةً تتعالى/ إلى نضجها،
دون أن يعتريني الضجرْ،/ ثم أغزل من ظلها الرخوِ/ قبعةً للحجرْ…
من التعابير المتداولة والمنسوبة إلى علماء اللغة، ذلك التعبير الذي يقول إن المتصورات هي المفاهيم، وفي هذه الحال يصح لنا القول إن الشعر، هو اللغة بما تمتلكه من قدرة على تشكيل نسيج النص الشعري بكل دقة وإحكام.
-2-
في أعماله الشعرية الأخيرة التي كتبها الشاعر علي جعفر العلّاق في المنفى العربي، كنا ولا نزال نجد بين سطور نصوصها الحزينة صدى رهيفاً لحنين حاد إلى العودة إلى العراق، مهد الطفولة والحب الأول. والمجموعة الأخيرة لم تخلُ من ذلك الحنين الذي لم يهدأ أوراه، لكنه بدا حنيناً مختلفاً يأخذ بعداً تشاؤمياً تتبدى فيه العودة إلى الوطن الأم مستحيلة أو شبه مستحيلة. وأهمية الشعر أنه يكشف أعماق صاحبه، ويقول أحياناً ما لا يريد هو أن يقوله أو يصرح به. وما هجس به شعر العلّاق في هذه المجموعة يقوله العشرات بل المئات من العراقيين الذين هجروا أرض الرافدين، ولم يعد باستطاعتهم العودة لمواجهة الخراب الذي حل بهذا البلد العربي العظيم. والذين رجعوا إلى العراق لأسابيع أو لشهور وكان منهم العلّاق نفسه، عادوا بانطباعات عمّقت الرؤية التشاؤمية وأفسحت لها مكاناً في إبداعاتهم.
ومن هنا، لا غرابة في أن يفتتح الشاعر العلّاق مجموعته الجديدة بمقطع شعري يوحي بكل ما أوجزته الإشارات السابقة:
حين ناولني سلة الخوص/ ريانهً، قال لي:
لك هذا العذاب/ وهذا التشهي، لك اسمٌ
شبيه بأول هذي البلاد/ وآخرها… لك هذي الإقامةُ/ أعني: السفر.
هنا، وفي هذه السطور السبعة يعلن الشاعر إقامته في السفر الدائم، واقتناعه بأن المنفى هو وطنه الجديد على الأقل إلى حين، فما الفارق في أن يغترب الإنسان في وطنه أو في وطن آخر، إذا كانت الغربة قد أصبحت قدراً لا مفر من الخضوع لأحكامه الجائرة سواءً في داخل الوطن أو خارجه. ويبدو أن غربة الأشقاء العراقيين في المرحلة الراهنة لم تعد غربةً، بل نزوحاً ملايينياً إجبارياً تحت وطأة الاحتلال الأجنبي ومخلفاته البغيضة، وهو ما يؤرق المبدعين ويشكل أقوى الدوافع للهجرة عن الوطن المستباح، وما يتعرض له أبناؤه المقيمون من إذلال وتقتيل وتفجيرات شبه يومية تنسب إلى قوى مجهولة أو غير مصرح بتحديد هويتها الحقيقة الملتبسة.
وربما كانت الغربة في حالات كثيرة ملهمة للشاعر، ودافعه بضيقها القاسي إلى تحريك أحاسيسه الداخلية، ورفد عناصر التخييل بالجديد والمدهش:
قالوا:/ مضى/ يبتني من وهمه حلماً
مرفهاً/ ويغني، علّ عزلته/ تلين كامرأةٍ
قالوا:/ يجفّ بهِ
يأس شفيفٌ، وقلبٌ/ يغبط الحجرا… 
إن هذا المقطع/ القصيدة بمفرداته اللغوية ذات الحضور الأليف يقيم تواصلاً دلالياً بين العزلة والغربة، بين حلم يقاوم، ويأس لا يخلو من الأمل الذي تستحضره كلمة «شفيف» بما لها من إيحاءات رامزة وعلاقة وثيقة بالضوء. وحين يصبح من الصعب اعتياد زمن الغربة مع ديمومة نوبات الحنين إلى الوطن الأم، فإن القصيدة بحضورها المفاجئ تكون، هي الملاذ المطامن لارتعاشة القلب والوسيلة الممكنة للخروج من الرتابة اليومية الموحشة:
ويسير صديقي إلى حلم/ لا يفارقه:
أن تمر الغزالةُ/ مرمى ذراعين من حزنهِ،
أن تعود البلاد كما انبثقت،/ أول الخلقِ:
صافيةً/ كخيول المطر،
لا يفر أبٌ من بنيه،/ ولا يدرك الشيب فيها/ حفيف الشجر.
 
 
 
 
  شعريّة السيمولاكر أو الشعر عارياً إلّا من وهمه:
 ذاهبٌ لاصطياد النّدى
 
  عبداللّطيف الوراري
مصير مُضاعـف:
في ديوانه الجديد ‘ذاهب لاصطياد الندى’1، لا يزال الشاعر العراقي علي جعفر العلاّق ينحت كتابة قصيدته الخاصّة، بقدرما يُعمّق ملامحها الشعرية التي لا نُخطئ بحّة الحزن الإنساني الرفيع فيها؛ وهي القصيدة التي تظلُّ، بهذا المعنى، بالغة الكثافة ومُتطلَّبةً لذلك باستمرار؛ فما قيمة الشعري خارج التجربة الإنسانية وزمنيّتها الكبرى التي ينغمر الشاعر في مياه دبيبها ويحجُّ إلى أطياف ضوئها.
ونتساءل معه: ما الذي يبقى للشاعر في شعره بعد أن تهجره المياه وتهجم عليه اليابسة؟
هنا والآن، عبر نصوص الدّيوان، تحتشد الأسئلة القصوى للإنسان في مواجهة مصيره وسط موجات الخوف والظلم والابتعاد القسري، وهي تلك التي يحلم الشعر، في كلّ لحظة يفرح بها، أن يعكسها ويُجلّيها بتوقيته هو، لأنّ هذا هو دوره الحقيقي، وبه يُعيد إليه شهوة أطرافه التي ينقص منها ضعاف الموهبة، وتُسيء إليها مُنغّصاتهم. مصير الشعر من مصير الإنسان، مصير مُضاعف تسلك مغامرته ذاتُ الشاعر ضمن الحركة المتبدّلة ـ المتبادلة في الزّمن والمكان، وتظلُّ تُقاتل في دربها حتّى يبقى لها الحقّ، الحقّ بأسره، في الخيال والتذكُّر والاختلاف..
التّذاوُت والإقامة في الما بين:
من البدء، نتلقّى رفيف المغامرة من الدروب الغائمة التي تسلكها ذات الشاعر، وهي تتعاطى مع أشياء العالم وتُفكّر فيها بمنطقٍ تلتبس فيه الحدود التي يُقيمها الدليل وثنائيّاته، بشكلٍ يجعل الأخيرة عاطلة عن أن تعمل، ويُحلّ محلَّها منطق الكتابة، الغائم والمُشعّ، داخل تجربة الما بين التي بها يختطُّ المعنى مساره، ويُنْشئ فعاليّته في غفلةٍ من الحدود، ومن الذّات نفسها. نكتشف هذا الالتباس الحيويّ بين الإقامة والسفر ابتداءً من المقتبس الذي صدّر به الشاعر عمله:
حين ناولني سلّة الخوصِ
ريّانةً، قال لي:
لك هذا العذابُ،
وهذا التشهّي، لك اسمٌ
شبيهٌ بأوّل هذي البلادِ،
وآخرها، لك هذي الإقامةَ:
أعني: السفر..
في خضمّ عبورات العمل وترحيلاته، نتلقّى صيغاً أخرى من التباس الحدود التي تتماهى مع بعضها الآخر سواء بين الموت والحياة، المجاز والحقيقة، النشوة والعذاب، الدم والحبر، الجسد والذكرى، القرب والبعد، الحضور والغياب، الأسطورة والواقع. يتمُّ ذلك، من جهة أولى، داخل سيرورة المعنى الذي تجترحه الأنا الشعرية في علاقتها بالمكان المتهاوي الذي يُعاد تشكيله باستمرار، وبموازاة مع السفر (في لا إلى) ليلاً حيث العلاقة المجروحة بالأثر تُصعّد مكبوتها الهاجع في الروح والذاكرة، والقابل لأن يُعاش مرّة أخرى وبصيغٍ تطفح بالحياة والرغبة فيها بتسميةٍ جديدة:
وحيداً
ليس لي ليْلٌ لنمضي ليلنا سويّةً..
لا قوْسَ .. لانُشّابْ
إلّا صحارايَ التي يكسرها الوهمُ إلى نصفَيْن:
أيّ امرأةٍ تفوح من أصابعي الآنَ،
وأيّ حيرةٍ تشعّ في الأكوابْ..؟
وترتيباً على ذلك، يتمُّ داخل الوهم الذي يغرف شعريّته المتوتّرة من روح الإنسان التي يسكن الشاعر ويسير معه جنباً إلى جنب، فيشطر ذاته، ويُفجّز دخائله عبر تقنية المرآة التي يصطنعها ويتّخذ منها ذريعة الشبيه (السيمولاكر) الذي يُحاوره ويوجّه إليه الكلام، لأنّ مثله في منفاه لا يملك من سلاح إلّا حيرته البيضاء وحزنه الصافي خارجاً للصيد، أو مواجهاً البحر، أو  أومُصغياً لِلّيل، أو مستدرّاً غيوم الذكرى والجسد:
كان كلانا يُغذّي حزنَ صاحبه
منذ التقينا بلا قصدٍ..
ومذ كُسِرتْ
أيامنا كالمرايا ذات كارثةٍ..
ومذ  تناااااءتْ،
وغامت بيننا..
الطرقُ..
ندنو ،.  ونفترقُ..
في عالم من مرايا تقترب وتنأى، تسكن الذات آخرها وتفوّض أمرها إليه، ولا يكون هذا الآخر إلا بمدى بُعد الذات عن نفسها، وبما يجعلها، في اختلافها، شبيهةً بالآخر بمقدار ما هي تتجلى وتتوارى، وتقترب وتنأى في آن. وفي هذا المعنى المستأنف باستمرار، فإنّ هذا العالم يحكمه العود الأبدي الذي لا وجود فيه للشيء إلا في عودته، خارج خطّية الزمان وتقدُّمه. وباستيهامه، يصير هذا العود الأبدي ـ كما يشير إلى ذلك جيل دولوز2 ـ كإيمان بالمستقبل؛ وليس مثل الذات في الشعر من يُقيم فيه على حوافّ المغامرة والخطر:
هو واللّيلُ
كانا معاً يسهرانْ
ويُطيلان عمرهما بالسهرْ..
ثُمّ يذهبُ كلٌّ إلى وجْهةٍ:
يذهب الليل للنّوْمِ،
 والريح تُمْضي بقيّة ليلتها
 في أعالي الشجرْ..
فذات الشاعر عندما تجترحُ شبيهَها المختلف، فإنّ ذلك ما يفتأ يُظْهر كينونتها غير قارّة، بل تتجاوز نفسها باستمرار. يتجسّد لنا ذلك في أكثر من معنى داخل نصوص بعينها مثل ‘غبطة الحجر’، و’هذه القصيدة’، و’يرفو ثياب قصيدته’، و’ربّما..’، و’ما بين وهم وآخر’. من معنى أن تتحقّق الذات بالوهم وتعبر في الما بين، ومعنى الاستمراريّة في الحياة المحلوم بها في المجهول، إلى معنى أن يكون الشاعر هو آخره في طريقٍ لم يختَرْها أو فاتَتْه لسببٍ قاهر. وفي قصيدةٍ لا تكتمل، يتصادى صوت الأنا مع أصواتٍ جريحة قادمة من القديم والحديث، ومن الشرق والغرب. امرؤ القيس، أبو العلاء المعري، السياب، محمد عفيفي مطر، سركون بولص، باث، رامبو، خيمينيث، جنباً إلى جنب. تذاوُتٌ يحفر في جينيالوجيا النصوص ويتمُّ كترجيع ودوار لا ينتهي. لكن يبقى صوت أبي العلاء الأضوأ والأبرز للبحّة العطشى التي فيه، حيث يتجسّد فيه بعد الشبيه، ويُستدعى كقناعٍ في آخر العمل، فيبني عليه الشاعر رؤيته المُفارقة التي تسأل، وتُواجه وتتّهم عالماً من القتل والخراب. لا يعود القناع قناعاً، إنّما هو الآخر يتحوّل من راءٍ قد ‘انتفضت في حناياه شمسٌ من الشكّ’ إلى مجرّد شاهد تعطّلت رؤياه وعجزت عن الفعل والاستبصار:
قالت الرّيحُ:
مرّ النبيّ على هذه الأرض ثانيةً
فرأى كلّ طاغيةٍ
وثناً، يترنّح بين ضحاياه
 مُنتشياً، ومدى ما ترى العينُ
شمسٌ مُخضّبةٌ أو قتيلْ.
ولستُ أعرف إن كان أبو العلاء يوقظ الشاعر من وهمه، غير أنّه ـ بالأيقونة التي يظهر بها ويتطهّر فيها أيضاً ـ يزيد وعي الشاعر حدّةً وانتباهاً، ويُطلق معانيه في رياح الشكّ والحيرة من جديد، حتّى لا يتكلّس كـ ‘معتقد جماليّ’ ويسترخي بالاطمئنان إلى الوهم نفسه.
في المقابل، تخترق بنية اللغة علاقة جدليّة نلمحها على الدوام، تُعيد التوازن لما يتمّ داخلها من توتُّرٍ واختراق. هي علاقة الأنا ووعيها المُبتهج بجسدها- جسد الأنثى حيث يثوي موطن كينونتها الذي يعطر ويتوهّج. فعلى ‘تقاسيم’ الجسد وصنائع الأنثى العجيبة التي تُحيي الميت وتسكر الغافل، يُفلسف الشاعر الحبّ وأهواءه حيت تصير المرأة معادلاً للانطلاق إلى الحياة، كما يشدّ خطابها اللافح إلى الموت متوتّراً بين نشوة العذاب وليل الماء اللا متناهي:
فلا ليْلَ لهذا اللّيْلِ
 إلّا ليلها النّديانُ
 يبعثُ في دمي رُسُلَهْ..
 فالجسد يصير شبيهاً، أنا ـ آخر؛ فهو ذات الشاعر ومرآته في آن، ممّا يجعل من الجسد حَقْلاً مثيراً يستضيءُ برمزيّة الماء واستعارات اللغة :
قال لها:
يداكِ ما أشهاهما
حين تمرّان على حُلْمي،
هذا الأشيبُ القاحلُ،
أو حين تجرّان قطيعاً من غيوم الله للغرفة..
ما أدراكِ ما الغرفةُ؟
محضُ صخرةٍ عاريةٍ من دونما اثنيْنِ
يُضيئانِ على السريرِ، أو يفوحان
على السريرْ..
وفي سياقٍ مُوازٍ ومنبثقٍ عنه، تتجاوز ذات الشاعر ما هو فرديّ ـ شخصانيٌّ فيها إلى ما هو جمعيٌّ يستدعي الوطن مُشْبعاً بمفردات التاريخ والأسطورة مثلما في نصوص ‘لغةٌ للقطا والحمام’، وعندئذٍ يكون لملفوظ الذّات طعم الصعق. فالشاعر، وهو ابن واسط الخصيبة، بقدرما يذكر للوطن نعمته التي لولاها لم يكن شيئاً، ويتذكّر ما كان يفعله ماء دجلة في الجسد والأرض من عنفوان به يرتوي نسغ الحياة وترتقي آداب الحبّ والحكمة فيها، بقدرما يتحسّر على ما آل إليه الوطن في ‘مهرجان الكراهة’ بعد الاحتلال وما صاحبه من مأساة حقيقيّة، كأنّ أرضه طُويت ‘طيّ السجلّ’، ويُناديه من قاع خوفه لكي لا يفقد الأمل في حيرته العالية الناجمة عن الشعور بالاغتراب والحنين إلى الوطن المفقود والمحلوم به:
كَمْ كنتُ أحميك منّي:
أمشّط أيامك البيضَ،
أغمر أحزانها بالحُليّ، أعلّقها
عالياً، فوق نهْرٍ صغيرٍ .. صغيرْ
وطناً قاسياً
كالحرير..
 
ولكن ‘عبثاً ينصبون كمائنهم للنّدى..
عبثاً يسرقون أسامي الينابيع.
ذلك ما يجعل الشاعر، في متاعه الشحيح، يبحث عن ‘قمر ذابل فوق أوروك’، ويجعل روحه الحائرة تطفح بالأمل عبر صيررورة ـ ذاته في المعنى الذي يتطلّب واجب التذكُّر والحنين لمواجهة العزلة والنسيان، ومقاومة الشعور بالخوف واليأس وسط أكوام الخراب، وهو ما نجده يكثّف سيرورته في ‘مديح الرمل’، عندما يصرخ من بطن الحوت وينتفض، مثل اللديغ، ضدّ ‘الطغاة، القساة، الجناة، الغزاة، الذئاب.. ووراء هذا الانفعال الذي يصطرع بداخل الذّات ويصبغ رؤيتها الوجودية المحفوزة بسخاء الأمل، ما يقوّي وهم الشاعر ويجعله مستأنفاً باستمرار، فيصير كضرورة عندما يستضيء بلغة الشاعر الخاصّة جدّاً، وهي لغة نسلها من بابل وربّاها بالماء وعطّرها بدم الأضحيات:
نحن شتّانَ: لي لغتي،
ولكم لغةٌ..
أنتمُ ذهبُ الرمْلِ، أوفضّةُ القاع باردةً،
وأنا ابن العذابْ..
شعرنة الوهم.. دفاعاً عن الشعر:
من ذات إلى ذات- آخر، تُكرّس نصوص ديوان (ذاهب لاصطياد الندى) جهدها الجماليّ والتيماتي دفاعاً عن الوهم وتعمل على شعرنته متوتّراً، في لحظة حادّة من الوعي، بين الحضور والغياب؛ فما الوهم إلّا وجه الحقيقة الغائبة التي يذهب إليها الشعر ويلوذ بها، مثلما تذهب أنا القصيدة وآخرها القرين، باستمرار:
كم حاولتُ أن أستدرج النّدى
لكي يسيل من شجرةٍ
توشك أن تلفظ خضرتها
الأخيرةْ..
النّدى هو نسغ الوهم. ذلك الذي لا يزال يرفُّ عالقاً بالذاكرة، والمكان، والجسد، والكتابة. إنّه ما يجعل الشاعر يواصل البحث في أسئلة كينونته كأنّه يُصغي إلى ‘بطْنٍ حُبْلى’، ويُحرّض شعره على الغناء والبوح بما يُبْقي الأمل لديه حيّاً. فالعنوان نفسه يقيم، أيقونيّاً واستعاريّاً، في هذه اللحظة المُفارقة من بحث الذات لكينونتها وزمنها العصيّ والمتفلّت باستمرار، وهو ما يجعلها تشتبك بآخرها، وتعود بقصيدتها إلى زمن البدايات الأولى في صفائها والاندهاش بها.
وبهذا المعنى، يجب أن نفهم لماذا يلحُّ علي جعفر العلاق ـ بوعيه الشعري والنقدي معاً ـ على أنّه يكتب قصيدته الخاصّة به، القصيدة الصافية. فهي لا تنتمي إلا له، ولا تُذكّر إلا به، عبر لغته هو فحسب. في فضاء الصفحة المُشظّاة والمدبوغة بحبر دمه ورفيف أنفاسه، يُمارس تصوُّره الخاصّ للغة، وبالتالي للشعر، كنداء حيث تسرح متوالياتها كسرب ظباء جافلات يُسمع لها صوت، وحشرجة، وإيقاع خافت؛ وحيث يتناوب المعلوم والمجهول، المقول واللّا مقول، الثابت والصدفوي. وهذه الصفحة، المتعدّدة بخطّيتها، تُعطي للبيت إمكاناتٍ/ تشكُّلاتِ لا حصر لها من التوقيع الذّاتي الذي تخترقه القوافي، والتوازيات، والبياضات، وأشكال التكرار والترقيم والتفقير والتقطيع ضمن عمل اللغة وأساليبها المشدودة إلى حركة المعنى، مثلما إلى علاقات التناظر والترجيع والتدوير الناشئة عن أعاريض البحور البسيطة (المتدارك أوّلاً، ثم الرجز فالرمل والوافر) والبحور المركبة (البسيط تحديداً). وإذا كانت قصائد الديوان تنتظم في سياق شعر التفعيلة ـ باستثناء قصيدة نثر بعنوان ‘ما بين وهم وآخر’ـ إلّا أنّها تُعقِّد الوضعية الوزنية للبيت الحر، وتخرق نظام الوحدات الثلاث (العروضية، النظمية والدلالية)، وتُعيد بناء القافية وترتيب ثنائية المكتوب والشفاهي داخل القصيدة برمّتها. فنحن، بهذا المعنى، أمام إيقاعٍ نوعيٍّ، لاواعٍ، متقطّع ومُدْرك بشكْلٍ يُظهر حالات الذّات داخل اللغة التي لا تُختزل، هنا، إلى التواصل والإعلام الذين لا يهتمّان سوى بتجريد الذّات المتكلمة. هكذا، يبحث الشاعر أفكاره لا عن طريق العقل، بل عبر فضيلة الإيقاع السليم الذي ينتظر معجزة الكلمات إذ تقع كما يجب، سواء أكانت طولاً أو جرساً أو معنىً، وفيما بعد، تحت مسحة الحزن، يجد العاطفة الوارفة التي تُطلق الأفكار جميعاً.
إنّ القصيدة ـ كما يتصوّرها العلاق ـ أهمّ من أن تكون أغنية، ولن تكون حكايةً ولا كانت إعلاناً في الصفحة الرابعة. إنّما هي عملٌ فنيٌّ خاصّ، غائمٌ ومُشعٌّ في آن. ولهذا، فهي تتطلّبُ منّا ـ كقرّاء ومؤوّلين ـ إصغاءً من نوع خاصّ يصلنا إلى نقطة التماسّ حيث مكمن الضوء، والماء والسريرة، عبر طرق الوهم الجميل التي نسلكها. لا أن نكون ـ كما في حكاية يرويها الشاعر الأمريكي ألن تيت3 ـ مثل ذلك الرجل العابر الذي يفزع الصيّاد المستغرق في وهم جميل أمام نهر صغير يتخيّله طافحاً بهدير الأمواج وفضّة الزبد، بعد أن يخبره بأن لا شيء في النهر، فيفسد عليه وهمه ويطرد من مياه مخيّلته الأسماك والنوارس وأجراس القاع الدافقة إلى الأبد.
إنّ هذا الوهم الذي تقدحه ذات الشاعر، وتحرسه مخيّلته مشبوباً بمياه اللغة والإيقاع، لهو رديف الأمل الذي ينادينا عبر العصور والأزمنة، من نقطة التماسّ تلك، عند شعراء صنعوا من وهمهم الجميل ضرورة أن يكون الشعر بيننا، لأجل أن نتطلّع باستمرار إلى الحياة، وتظلَّ قلوبنا قادرةً على الانفعال بها؛ وبالتالي، يسهم الشعر في إضاءة جوهر الحياة ويُهيّىء لنا تراثاً لمستقبل لم يأت بعد.
 
 
 
 
                                               علي جعـفـر العـلاق: طفـولـة تـزداد تألـقـاً
                                                                      مصطفى الكيلاني
 
الجـديـد المختلف عن سابقـه
ثمة جديد مختلف عن سابقه في ديوان ‘ذاهب لاصطياد الندى’ لـ علي جعفر العلاق والعجيب المدهش حقا هنا، أن طفولة الشاعر تزداد ألقاً طفولياً بعمر آخر للقصيدة يختلف عن عمر صاحبها بما يشبه الديمومة يقابلها زمن ميقاتي عارض به تقاس حيوات مختلف الكائنات البيولوجية، كأن يستدير زمن الشعر، باعتباره زمناً أنطلوجياً في الأساس والمرجع، كي يعيد للكينونة توثبها فتتعدد وتتجدد بكيمياء القصيدة تنبعث من وهج روح مبدعة يتملكها نزق رغبة تنشد الخلود رغم النقصان.
لذلك ، تشهد الكتابة في قصائد هذه المجموعة الجديدة انطلاقاً آخر جديداً، في طريق هي أبعد من الشعر، بما أسماه فيلسوف ‘نقد نسيان الكينونة’ مارتن هيدغر’الشعري’ أو’قصيدة القصيدة’
-‘اليـوم غنيمة وصديق’:
كذا الاسم يتحدد بالموقع (الــ هُنا)، ‘أول البلاد وآخرها’، وبالزمن (الآن)، بدلالة الإقامة والسفر. وإذا قصائد ‘ذاهب لاصطياد الندى خروج عن دائرة الزمن المنقضي (أمس عظة وشاهد عدل) بمختلف ذكرياته وأحلامه واستيهاماته إلى ‘اليوم’ (غنيمة وصديق) بدلالة الاحتفال الذي يشي عادة بالبعد الآخر المتأسي المؤجل للوجود كي تنقضي الإقامة حتماً بالسفر، وهكذا فإن الذات- في انتظار الزمن القادم (وغد لا تدري من أهله)، أحد أضلاع الزمن الوجودي حسب المنظور الثقافي العربي الإسلامي الذي مثل المراجع الأولى لفلسفة الوجود الغربية والإنسانية عامة – تندفع إلى خوض تجربة الاحتفال بما تبقى من الوجـود بأقصى الحالات مكابدة وعـذابا ً، كما أسلفنا ، مـوتا جميلاً في الحياة قبـل الهلاك .
لذا يتماهى الشعر لدى علي جعفر العلاق والاحتفال بالوجود المتبقي أو الوجه الآخر للوجود قبل أن يسفر هذا الاحتفال عن مخبئه المأتمي . ولأن الاحتفال، هنا تحديداُ، هو في الشعر، وبه، فقد اعتمد الشاعر وسائل مختلفة من الإنشاد الذي يرتفع بالحكمة إلى أعالي الحال المتغنية، على غرار ما قد نتمثله من ابتهالات المعابد القديمة، مروراً بالأديرة والكنائس إلى اليوم ، استجابة لروح نشيد الإنشاد وما شابهها.
 
القصيـدة النشيدة:
فتلتقي لغة الشعر والتصوير والإيقاع في تشكيل بنية القصيدة- النشيدة التي اشترطت وجود دلالة هي بمثابة اللازمة المتكررة في المعزوفة الموسيقية، وقد أشار إليها علي جعفر العلاق منذ البدء ‘وحيداً’ (كنت وحيداً) وأمامي البحر، إلماحاً إلى حال الانفراد، بشعور شبيه بشعور الزاهـد أو المتصوف أو الحكيم بالشعر، أو الشاعر بالحكمة الحريص في ذاته على التنصت الى أدق حالات الصمت المتكلم أو الكلام الصامت في قيعان الروح ، وهي تستقدم فيزياء الكون وتاريخ البدايات وتستبق ‘اكتمال’ الحلقة في تجربة الذات الشاعرة الوجودية الخاضعة حتماً لهدير العدم أو ‘رياحه’ بلغة أبي القاسم الشابي، الذي يقتضي التمدد والاستدارة، المسار والتكرار، قريبا في هـذا المعنى من ‘العود الأبدي’، حسب مجاز نيتشه .
ولأن الاحتفال، شأن الابتهال، حكاية تروى إنشاداً فقد كان للسرد الشعري حضوره في هذه المجموعة الجديدة ، لذا تواترت أحداث الحال بعناوين دالة على مقامات أطوار: ‘كنت وحيداً وأمامي البحر، أين ستمضي به الأرض ؟، بقية من سهر الليل على ردائه، لغة للقطا والحمام، تقاسيم ، أسئلة القتلى…’
فكيف تتعالق هذه الأطواروتتشابك في نسق الحركة الشعرية العامة للنص؟
– ‘كنت وحيداً وأمامي البحـر’:
تنطلق تجربة الكتابة في هذه المجموعة بتوصيف حال الانفراد (كنت وحيداً وأمامي البحر) بأسلـوب يستقـدم إليه الإيقاع بالتكرار الصوتي ، والتكرار اللفظي والإعادة التركيبية النحوية وبعض من التقفية.
إن يقـين الذات بوجودها الراهن مزحوم بعلامات الارتياب كما يظهر في الاستدراك والنفي والتشبيه حينا ، والجمع أحيانا ، والاستفهام بما هو دال على التكثير الذي يحول نواة الذات إلى عدد يصعب تحديده : بقاياي… نفس… جـسد… لا قـوس… لا… حيرتي… مثل ناقة… مثل امرأة…. مثل حيرة…. أي حيرة؟ .
هو الانفراد، إذن، لا تُحقق به الذات الشاعرة طمأنينتها بل المزيد من الحيرة الناتجة عن الشعور الحاد بالغربة والاغتراب. فلا يتحرر المكان من ثقل مكانيته، بل نراه يجثم بقوة على الكيان الانساني ليدفعه إلى وضع الشتات (بقاياي) الباحث له عن مستقر. فالعزلة أو الانفراد في ‘كنت وحيداً وأمامي البحر’ احتمال لرغبة جديدة بعد تقادم الرغبة الأولى حدّ اهترائها، محاولة للملمة شتات الروح بعد التبعثر الذي حدث، توسل شعور الفقدان (فقدان ما كان) برمزية الأنثى (أي امرأة تفوح من أصابعي..؟) لتندرج الذات في اللحظة الشعرية نشدانا لطمأنينة قد تتحقق وقـد لا تتحقق: ‘أي حيرة تشع في الأكواب؟ كم كنت أصغي لهذا الليل؟’
وهكذا، كلما قاربت الروح ‘نفح الندى’ بغية اصطياده تلاشى الإمكان، كالمشهد السرابي أو اللحظة الارتيابية تباعد بين الرغبة ونقيضها الذي هو استحالة الرغبة:
‘ومـذ كسِرتْ
أيامنا كالمرايا ذات كارثةٍ
ومـذ تنـ اااا ء تْ
وغامت بيننا الطرقُ
ندنو ونفترقُ ‘
هو الاقتراب، إذن، سرعان ما ينقضي بالابتعاد لتصطدم الحال بالمحال، والذكرى بثقل الزمن، وكأننا بشاعرية علي جعفر العلاق الجديدة تستشعر ظهور ‘مواقع’ أخرى في خارطة العواطف الإنسانية التي لم يتفطن إليها عبدالرحمن بدوي وغيره من فلاسفة الذات والوجود .
إن الارتياب في لحظات الانفراد المشار إليها هو السائد، ارتيابٌ جديد لم نألفه في سابق نصوص علي جعفر العلاق الشعرية، يفتح على ارتيابات عدة رغم محاولة التشبيه للتدليل على معنى ما: ‘مثلما توقظ إمرأة … مثلما تترك الريح بعض تأوهها فوق أحلامنا… مثلما ترتدي امرأة رجلاً…’ إلا أن الدلالة المرجعية تبدو ، وكأن تتحدد، تقريبا، بالكآبة والملل (القـش):
‘هكذا
تنفضين الكآبةَ
والقشّ عن حلمي’
 
-‘بقيـة من سهر الليل على ردائه:
تندفع القصيدة في القسم الثالث من ‘ذاهب لاصطياد الندى’ إلى الأداء الكنائي بما يقارب تجربة محمد عفيفي مطر الشعرية، تماما باللون الإبداعي المختلف الذي دفع بقصيدة التفعيلة إلى أقصاها لتتماهى، دلالة وتدلالاً، مع قصيدة النثر العربية التي غامرت في القطيعة مع شاعرية الإفهام، وراهنت على شاعرية اللامعنى المختلف عن المفهوم القديم ممثلاً في نقيض المعنى.
إن اللا-مكتمل ، أو النقصان حاضر بكثافة في ‘بقية من سهر الليل على ردائه’، إذ إن القصيدة تغامر في إرباك لغة التداول المعتاد انزياحاً عن مألوف المعنى إلى ما وراء المعنى، بالانفتاح على مجاز أبعد يستوحي البعض الكثير من عالم محمد عفيفي مطر، هذا الشاعر الذي يتعقب ‘خياله المخيف’ ولا يتعب ، كاندفاعه العنيف إلى الداخل، حيث مرايا العتمة تولد لديه أخطر أسئلة في مجال الكتابة الشعرية:
‘يسأل:
هل تكتمل القصيـدةْ ؟ ‘
فقصائد ذاهب لاصطياد الندى’، مثلما أراد لها علي جعفر العلاق أن تكون، مختلفة عن سابق منجزه الشعري، بفعل التماهي المستضيء بعتمة الأعماق، وشاعرية الغموض، وسيادة اللامعنى، أو ‘مجاز المجاز’ ، بحثا عن لغة تغالب بها الذات الشاعرة عجز اللغة، كمحمد عفيفي مطر (ملك الفقر) يستعيض عن ثابت القصيدة بمشروعها المفتوح على التحولات :
‘هو الآنَ يحشد ضوءَ
معانيه، من كل حدب ٍوصوب ٍ
هو الآن يرفو ثيابَ قصيدته الشائكة ْ
لغة مربكـة ْ ..’
وإن الاشتراك في دلالة المعنى الوجوديّ – المشروع بالمنجز واللامنجز الشعريين بين شاعر بابل وشاعر النيل، بين رمزية أسوار بابل و’إيزيس الجميلة’ ، بوهج العشق الذي سكنهما معا، إن ذلك الثريّ كله قد أخصب شعرا مختلفا لا يستقر على حال ، شعرا متمردا تماما على البعض الكثير من قيود اللغة وعادات القصيدة.
– ربما شحبت لغتي..ربما وهـن الحلم مني:
هذا الوعي الحاد الناشيء عن إدراك ‘شحوب اللغة’ و وهـن الحلم’ هو الذي أحدث هذه اليقظة المباغتة التي دفعت بالشاعر الى أفق آخر، بل آفاق أخرى ، للكتابة تحتفي ‘بالشعري’ كما أسلفنا، قبل الشعر ، وتعود بالقصيدة إلى زمن البدايات الأولى ممثلا في طفولة الاسم وطفولة المعنى.
واذا الكتابة بهذا التوجّـه، فعل وجوديّ صيغ باللغة ‘انتفاضة شهوة الضوء في دم الشاعر’ ، هذا المجاز القريب من مجاز نيتـشة كمـا ورد على لسان زرادشت: ‘أكتب بدمك فإن الـدم هو روحك!’ وهي اقامة تتحرك في المابـين ، (الإقامة والسفر) :
‘ربمـا
فاتني أن أهاجرَ
أو فاتني أن أقيـمَ ‘
هذا الشعور المابيني ينفي الحد الفاصل ضمنا بين الإقامة والسفر، كالقول على غرار خارطة العواطف الملتبسة، بالإقامة المسافرة أوالسفر المقيم، شأن الإقامة في الجسد وبالجسد ، فهي حال عارضة أيضا حينما نفكر بالزمن ، غير أن ‘ظلمات الجسد’ هنا، قد تساعد الموجود على السفر قبل السفر بما قد يستضاء به على عتمة الكيان الانساني الغارق في االحيرة ، وكالظلمة تشي بما هو أشد ظلمة منها، وباللغة تحمل بمجازاتها إمكانا لمجاز أبعد، في التدليل على معنى بدافع الرغبة في تسمية اللامسمى ومقاربة الإقامة/ السفر.
فهذه الظلمة الدالة على الما بينية تذكرنا بمعنى قريب منها ورد على لسان إحدى شخصيات ‘كل الأسماء’ للروائي البرتغالي خوزي ساراماغو: ‘لا تخف يا رجل، فالظلام الذي الذي أنت فيه هنا ليس أكبر من الظلام الذي في جسدك. إنهما ظلامان منفصلان بجلـد …’
إن الظلمة هنا حاضرة في اتجاه السفر صوب الداخل أو الخارج، والوميض الفاصل بينهما شبيه بجلد، لذلك تحرص الذات الشاعرة على وهم الإبصار أو واقعه ، احتفاء بما تبقى من زمن الإقامة فانتظار السفر ، شأن المهرجان أو العيد ، يشي حتما بانقضائه الوشيك المائل فيه، كالحزن الحاضر بكثافة في عميق الفرح أو الأمل لا يكون إلا باليأس، كالذي أثبته ‘ كيركغارد
‘هم ينتمون إلى فرح ميتٍ لا إلى
حيرة ٌ عالية ْ:
هي أول هـذي البلادِ وآخرها،
هي يأسك أو ناركَ الصافية ْ ….
فعجز اللغة عن مقاربة الكيان الانساني الناقص و القصيدة غير المكتملة معا يستدعي إليه مجازات أخرى : بالندى والماء ومرايا الداخل والنار المخبأة ..’ وحال العابر بين (الإقامة والسفر) عند الإقامة المؤقتة في الجسد ، داخل الموقع (الهنا) أو داخل اللحظة (الآن) كي تتأسس ‘لغة القطا والحمام’ بروح الطبيعة وتوهج النفس البشرية حيث التلاقي المبدع، رغم نقصانه، بين حدس الكائن ونبض الوجود .
– أي نشـوة تهطـل من كيانـه؟ :
تحيل الذاكرة والأنوثة على زمن البدايات إذ تساعدان معا، وبالمشترك القائم بينهما، على مغالبة استفحال ‘الكآبة في الروح’ ، كأن تستعيد القصيدة أطياف ذكريات قديمة قد تتجاوز حدود الفرد إلى المجموعة بما يمتد قرونا إلى الوراء.
وللطبيعة ،أيضا، حضور بارز في تقاسيـم (الجزء الخامس من الديوان) كي تشارك الذات الشاعرة مللها القديم المستعاد بحال امرئ القيـس الشعرية (وليل كموج البحر..) ، بالليل والريح والخلجان ومختلف العلامات الدالة على وحشة المكان والكيان، كما أن التذكر يمثل دافعا آخر إلى المزيد من القلق، من الاكتئاب بالوهم يتناسل أوهاما، وبمحاولة استقراء الندى أمام عجز اللغة، كما أسلفنا، عن البوح بما هو عميق ومستعص ٍ من الدلالات ، ولو بصفة تقريبية، إذ تتجـه الكتابة إلى ‘كلام الصمت’ الماثل في عميق الأزمنة عوداً إلى بدايات الخلق، وإلى سـرّيته كما تتجلى ضمناً في ‘ إلـه ماهرٍ، وشهوة الرعـد، وذاكـرة الجـرار، وبشاشة الـريح…’ وما يعمق إحساسنا وَحـدسنا باستعـادة بعضٍ من قصة البـدايات (حواء وآدم والبستان والمصير…).
وكذلك فإن شهوة الطبيعة تشي بالفيض الأول يندفع في الذات الشاعرة كشلال من نور ساطع ينشئ الرغبة في الوجود، بل يفاقم من هذه الرغبة، تلازما مع شهوة الكتابة. ويبرق عميقاً في مرايا العتمة حيث الأطياف والأشكال تنبجس من كل العناصر والأشياء، بما يُضيء كعشبة النسيان، وبالموسيقى (تقاسيم) تُظهر الوُجود على شكل معزوفة سمفونية لا تنقطع:
‘وكلما لامستُ وتراً من أوتاره
أحسستُ أنني أمرر جمرةً
بين لهاتي ولسان المزمار..’
 
– ‘أسئـلة القتـلى’:
تندفع القصيدة، إذن، في مغامرة اللاوثوق، إذ تنفي أكثر مما تُثبت، كي تؤدي فاعلية الشعر إلى السؤال بدلالـة الموت في ‘أسئلة القتـلى’ (الجزء السادس والأخير من الديوان)، كما يستذكر علي جعفر العلاق أبا العلاء المعري بعد سركون بولص في السابق القريب. فإدْراج ‘رسالة الغفران’ في سياق حال شعرية ملتبسة هو وجه آخر للتناص الذي يُقارب بين وضعين شعريين مختلفين يلتقيان بحال تراجيدية مشتركة، كأن يستعين العلاق بمعقل تجربة المعري في الشعر والحكمة والوجود، وكالنبي أيضا تشهد الريح على مروره ، وتحتفي به مختلف عناصر الطبيعية الأخرى، كما يُظهره التاريخ برمزية ‘الأرض والطاغية والشمس المخضبة والقتيل…’.
الزمن الذي ينتهي إليه الجزء الأخير من الديوان هو زمن القتل برمزية ‘خنجر قابيل يوغل في الـذبح حـد الضجرْ ‘، زمن الضحايا هنا وهناك في عالم يحكمه الطغيان، زمن الليل والخراب والجدب و الأماني البيض’ و ‘الجهل الذي تستره التيجان’…
وكما تكون الغلبة عادة ‘للفساد’، بلغة الفلاسفة القُدامى فإن الموت هو المحصل الدلالي النهائي في قصائد ‘ أسئلـة القتـلى’ ، التي تمزج الماء بالذكرى :
‘وهـذي المقبرةْ
بجنـونٍ أزلـيّ ..
فلماذ لم تعد تُصغي
إلى أسئلة القتلى، ولا تُدْرك من نحـنُ،
ولا تقرأ أسرار الرعـودِ الممطـرةْ ؟ ‘