علي جعفر العلاق يستعيد رحلة الشعر الذي لا جواب له

نشر الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري مقالته التالية، في جريدة القدس في 15 اكتوبر 2022، عن سيرتي الذاتية : الى أين أيتها القصيدة؟ التي صدرت طبعتها العراقية حديثاً عن دار الشؤون الثقافية، أما طبعتها العربية فقد أصدرتها دار ناشرون في عمان، شكراً للصديق الوراري على مقالته الجميلة .

شعرنة السرد

عبد اللطيف الوراري

أضحت السمات المهيمنة التي تعبر من نوع معيّن إلى نوع آخر، بمثابة سمات مشتركة تنتمي إلى الأدبية، أكثر منها إلى الشعر وحده أو إلى النثر وحده. فكما يمكن الحديث عن عبور تقنيّات السرد إلى الشعر، يجري الحديث- بموازاة مع ذلك – عن اختراق الشِّعر المعاصر لعدد من الأنواع السردية التخييلة وغير التخييلية، بما فيها السيرة الذاتية، فيحدث نتيجة ذلك عنصر الهجنة الذي يُولّد سرودا جديدة، أو يصعب تصنيفها مثل الرواية الشعرية، أو المحكي الشعري، أو الكتابة عبر النوعيّة بتعبير إدوار الخراط ،الذي أولى اهتماما ذا اعتبار للسرود ذات الحمولة الشعرية، ووجد في لجوئها إلى الشعر واعتمادها عليه بمثابة «الخلاص من الرثاثة والابتذال والمهانة التي يتميز بها الواقع المحيط بنا» كما لفت إليه إدوار الخراط.
في السيرة الذاتية الجديدة، يحدث تطوُّرٌ يمس أطر المحكيّ بقدر ما يبلبل مفاهيم الشكل التعبيري الخاص بها. فالسيرة الذاتية تتناول بالسرد، شأن الرواية أو القصة، حدثا لما مضى من حياة المؤلِّف، لكن المُعوَّل عليه هنا ليس استعادة ماضي الأحداث وتذكُّرها حسب، بل الكيفية التي تروى بها هذه الأحداث من جهة، وطريقة النظر إليها استدعاء وتخييلا، وما تفصح عنه في تسريدها للذات وللعالم من جهة ثانية. إنّ السير الذاتية التي كتبها بعض الشعراء وجنَّسوا محكيّاتهم تحتها، وهي قليلة بالقياس إلى عشرات السير الأخرى التي ألّفها مؤلفون من زوايا ومشارب وأفهام أخرى مختلفة، تُعبّر عن روح جديدة في كتابتها، وعن كيفيّاتٍ مخصوصة في بنائها وتخييلها، ويتجلى فيها الشعر بأناه الغنائي والمجازي حاضِرا فيها بكثافته، ليس على مستوى الكون الاستعاري والتخييلي لهذه السير، بل كذلك على مستوى تشييدها فنّيا. وقد أثارت مثل هذه السير، مُجدَّدا، مسألة الشعر المقيم في قلب الظاهرة السردية.

إلى أين تأخذني القصيدة؟

يأتي إلينا الشاعر العراقي علي جعفر العلاق من إحدى قرى واسط، وفي أثره غناء المروج الفوّاحة وطيور الحصاد، ونُواح الرّيح في سفرها الأبدي وهي تتصادى مع أغنيات الغجر الفارّين من حنين التاريخ. وقبل هذا وذاك، يأتي من أساطير دجلة. تشعر من خلال همهمات اللغة التي استقطرها كأنّ ولادته نشيد لانهائي، وأنّه أومض للتوّ من قيعان هذا النهر السحيق ومعه أحلام الأطفال الغرقى، وأنّ صوته الخافت عريشة زعتر وهي تحلم وسط طوفان الصور والوقائع والحرائق، وذبذباته تصّاعدُ للتوّ من بخار الأيام ومن «لا وعي» الأعشاش، بما توحي به من دفء وارتعاش وسخاء، على نحو يعطي الانطباع بأن كل فنّ أصيل على وشك الاندثار، وما يبقى منه هو فنٌّ في حد ذاته؛ لأنه لا يريد أن ينطفئ على أرض مُعذّبة، دون أن يترجمها في أثر، وأن يمسح عن حجارتها ذاكرة الدم.
لكن، ما معنى أن يكتب الشاعر سيرته الذاتية؟ أليس في إمكان الشّعر نفسه بوصفه كتابة ذاتيّة وفضاء مُميّزا لكتابة الذات والقصيدة في آن، أن يضطلع بهذه المهمّة على وجه أفضل؟ بقي الشاعر منشغلا على الدوام بكتابة سيرته على نحو من الأنحاء، في شعره العريض، وحواراته، ومقالاته، وتأملاته النظرية، لغرض التعلم والإصغاء للفردي بقدر الجمعي، وليس ادّعاء أو عن غرور؛ ولهذا، عندما أراد أن يجمع أطراف هذه السيرة الثريّة والمتشابكة بأسرارها ووقائعها ومشاهداتها، فإنّما يعيد تنظيمها واستكشافها من جديد، بما تنطوي عليه هذه السيرة من تواريخ، وأسئلة، وهواجس، والتزام أخلاقي وثقافي متوتّر حيال الذات والقصيدة، ومن العصر ككُلّ. ومن ثمة، يريد أن يجعل شعره نابضا في قلب السيرة، بل يمنحه حياة جديدة وتلقّيا جديدا.
تستدعي الذات ماضيها بصورة حميمية، وتستدعي معه حالات انبثاقها المتعددة: ذكريات الطفولة، النزوح من القرية إلى بغداد في الخمسينيات من القرن العشرين، تجرية اليتم والشعور بالعزلة بعد موت الأب (أحسستُ، بعد موته، كأنّني قد هرمت فجأة) اكتشاف الشعر مبكّرا والذهول أمام سؤاله الذي يثير في نفسه الحيرة والغموض، الارتباط الوجداني بالأم والتفجّع برحيلها (تجاوزتهم جميعا، واتجهت كما اعتدت أن أفعل في السابق، إلى غرفتها المكتظة بالحنين ولهفة الانتظار. عندها فقط أدركت أنها قد رحلت حقا، بعد أن أخذت معها النصف الجميل من دنياي..) الاتصال بالصحف والمجلات الثقافية وكتب الأدب والنقد، وبالجماعات الأدبية، بما في ذلك جيل الستينيات الذي عايشه دون أن يتورّط في دعاواه ومواقفه الأيديولوجية، والسفر للدراسة وتوسيع الخيار الجمالي للشعر بين دمشق وبيروت والقاهرة، وصنعاء، والعين، وإكستر ولندن.

ليس المهمّ استعادة سيرة الشخصية وأحداثها الماضية منذ الطفولة، وإنّما إعادة بناء هذه السيرة وتخييلها والإيهام ببعض أحداثها، فيما هي تبحث المعنى وتنفتح على الشِّعر الذي يمنحها حساسيّة جديدة ومضاعفة في رؤيتها الذاتية للأشياء والعالم، مثلما في التعبير عن اصطراعها الدالّ وغير الواعي داخل محيطها الضيِّق والمترامي الأطراف على حدٍّ سواء.

سيرة الذات وسيرة القصيدة

يتقاطع مع سيرة الذات نسيجٌ متنوّعٌ وساحرٌ ومفجع من وقائع التاريخ الجمعي الذي انطفأ في لحظة، وتريد الذات تأمُّله من أسفل، بما ينغلق عليه من بقايا صور، وهوامش، ومسارح قاسية، وفواجع (حياة الغجر، فاجعة كربلاء، تبدّل القيم، اندحار الحاضر، جشع السلطة، خيانة المثقفين..) ما جعل نصّ السيرة يحتوي أمشاجا من التاريخ، والمذكرات، ومحكي السفر، ووثائق المعيش، والبورتريه، والتخييل الذاتي، وغير ذلك. بيد أن الهُويّة السردية للسيرة تمتدّ من خيال الطفل الذي كانه الشاعر، ومات أبوه، مفتونا بما يحكيه ويتذكّره ويستلهمه، قبل أن تصطبغ حكايته بلغة الشعر والحلم والأسطورة، التي تقودها ـ بكفاءة نصية وتخييلية – ليس إلى استدعاء ما مضى وولّى حسب، بل وهذا هو الأهمّ من سيرة الشاعر والقصد من كتابتها تحديدا، إلى استئناف ما انقطع في لحظة ما وتحت تأثير قاهر، وإعادة دمجه في سيرورة حياة جديدة، على نحو يبعث زمن الذات من ركامه ويعطي لهُويّتها المتحولة معنى آخر، ولعصره بعض بصيص الأمل والتفاؤل. لهذا، يمكن أن تكون بعض الحوافز التي قادت الشاعر علي جعفر العلاق إلى كتابة سيرته الذاتية، إذا استعدنا تحليلات فيليب لوجون؛ هي: النوستالجيا (القيمة في الماضي من أجل العثور عليها) النموذج (وهو ما تُجسّده القيمة نفسها) ثُمّ المضايقة. وفي هذا الإطار، نعثر على قائمة أكثر تفصيلا تكشف «مواضعات النوع» أو «الأنماط السردية الثابتة» التي خضعت لها سيرة الشاعر تبعا لطبيعتها وبنائها الخاص؛ ومن جملة ذلك: البورتريه، الذكريات الأولى، النسابة، وجه الأم، ميل الكاتب، المدرسة، القراءة، نهاية الطفولة، قبل أن تنغمر الذات في عوالم جديدة وهي تأخذها إلى سؤال في إثر سؤال، ووضع تلو آخر. إلا أن العنصر السيري الوحيد الذي لا يُمكن بتاتا أن يُحكى ـ بطبيعة الحال- هو: موت الشخصية. كما أن القارئ بدوره يكون حافزا عميقا لقراءة السيرة الذاتية، حافزا يختزل نفسه غالبا في «بناء هويّته الخاصة».
وتضفي التقاطعات بين المحكيّيْن السيرذاتي والشعري نحوها الخاصّ على العمل فيما هي تتمُّ على نحو سلس ومتماسّ؛ فكلٌّ منهما ذو طابعٍ ذاتيٍّ تتخلّله التأمُّلات والانفعالات والهواجس الشخصية، إلى الحدِّ الذي يلتبس المرجعي بالتخييلي، والواقع بالحلم من جهة، مثلما أن كلّ لغة عبر عملها وسط هذه الإيحاءات المتنوعة تعكس رؤية خاصة بها للعالم.
وبناء على هذا التنويع الذي طبع نصّ السيرة، لم يلتزم المؤلف بالترتيب الكرونولوجي- الخطّي لوقائعها، بل يعمد إلى تكسير نظامه من خلال استدعاءات آنية، وذكريات، ومحكيّات، وشذرات شعرية، ومشهديّات بصرية، ودروس من تلقاء ذاتها، لا تملأ الفجوات هنا وهناك أكثر من كونها تعيد تنظيم السيرة الذاتية بما هي نوع أدبي له مواضعاته الخاصة، أو بما هي خطاب جمالي يعيد تأويل ملفوظاتها في سياق ما تقترحه كتابيّا؛ حيث لا حدود بين السردي والشعري، وحيث اللغة تمارس شعريّتها بشرط إثراء فضاء الذاتية، لا التعمية عما ينقله أو يصفه، بقدر ما هي معنيّةٌ بما يخصّ حياته كسيرورة متحولة، وحياة قصيدته بما تنطوي عليه من وعي ذاتي وتأمل ميتاشعري يضيء جوانب أساسية من شعره (الإيقاع، تقنية القناع، التناص، الرؤية للذات والعالم).
لقد تماهت سيرة الذات وسيرة القصيدة بشكل غير قابل للفصل، وهذا الأمر لا يحدث كثيرا في تاريخ الشعر. إن الطفل الذي ولد على ضفاف دجلة، وتَخيّل الشعر «كهواء القرية وحقوله الممرعة» من أين للقحل المادي والرمزي أن يتسرب إلى مُخيّلته المائية؟!
كان علي جعفر العلاق «من ذوي الأقلام» بالفعل، فعاش يكتب بدهشة ويقظة وأفق بالغ الثراء، وظلّ يراقب قصيدته وهي تتطوّرُ على الدوام إلى أقصى ممكناتها، وتقوده إلى العالم غير عابئ بإغواء السلطة وزعيق الأيديولوجيا في ذروة صعودها، وغير هيّابٍ إلا من الفنّ والجمال. ومثل ذلك، عاش ناقدا مسكونا بجدوى الشعر وضرورته، ومُثقفا أصيلا لم يتنازل قيد أنملة عن حرية الإنسان اليوم وواجب التطلُّع إلى عصر أقلّ وحشيّة وأكثر أمانا.
وإذن، ليس المهمّ استعادة سيرة الشخصية وأحداثها الماضية منذ الطفولة، وإنّما إعادة بناء هذه السيرة وتخييلها والإيهام ببعض أحداثها، فيما هي تبحث المعنى وتنفتح على الشِّعر الذي يمنحها حساسيّة جديدة ومضاعفة في رؤيتها الذاتية للأشياء والعالم، مثلما في التعبير عن اصطراعها الدالّ وغير الواعي داخل محيطها الضيِّق والمترامي الأطراف على حدٍّ سواء.

كاتب مغربي