عصام شرتح
يعد الشاعر علي جعفر العلاق من شعراء الحداثة المؤثرين، الذين أفادوا من لغتهم، في تحديث منظورهم للغة، من خلال أداء شعري يتميز بالنضارة والحيوية. ووفق هذا التصور، فقد أغنى الشاعر قصائده بإيحاءات جمالية تؤكد حداثتها في شكلها الجمالي وبنيتها النصية، فهو يعزف إيقاعاته الشعرية على لغة مبرأة من الزوائد، كما في قصيدة ليلٌ يماني :
خـديجةُ لم تُشرقْ على البئرِ ..
لم تَعُـدْ إلى أهلها يوماً ..
شموسٌ بعيدةٌ ..
وليلٌ يمانيٌّ يضيءُ
ليجرحـا ..
نحن، هنا، أمام أناقة لغوية طازجة، أشبه بغصن زيتون طري، أو شمس ندية بعبير الأنوثة وبكارتها (خديجة لم تشرق على البئر). كما أن إشراق خديجة هنا هو إشراق الأنثى البتول، التي تختزن كل شموس الكون في إطلالتها وليلها اليماني المضيء، هي الأنثى الخالقة بتجلياتها المفتوحة على ماء البئر المشرق بإشعاعاته الندية البراقة، والقارئ هنا ليس أمام تشكيل بليغ في إصابة الدلالات العميقة، بل هو أمام أنثى تهطل على الكون بفيوضها الصوفية التي تشبه الماء الزلال.
والواقع أن حيوية اللغة وشعريتها لا تنبثق من ناحية الصور، وحيز الدلالات الرهيفة فقط، إنما من خلال اللقطات التصويرية، التي تشرق وتسمو وترتقي في بنائها وهندستها التشكيلية، وكأن الشاعر يخلق، عبر إيقاعية الكلمة ودلالاتها، سحر التناغم اللغوي والانسجام التقفوي، ما يدلل على أناقة لغوية ترفع درجة الحساسية الجمالية في النص الشعري، كما في قوله:
ونحن
يتامـاها الرعـاةُ ..
ونحـنُ من يُطيـحُ بهـم مـاضٍ
وتمضغُـهم رحـى..
يضعنا الشاعر هنا أمام ترف الرؤية وإيقاعاتها التشكيلية، ليخلق مزاوجة جمالية بين قوله: (رحى= ليجرحا) ليكون النص كتلة تفاعلية معززة بالوعي الفني المحكم، أي أن ثمة قيمة جمالية مكتسبة من خلال الوعي التشكيلي، يحلق من خلالها الشاعر إلى شعرية لغوية، قد تبدو للقارئ بديهية، أو روتينية بينما هي تتضمن قيمة شعريةعالية: (ونحن من يطيح بهم ماضٍ// وتمضغهم رحى)، فاللذة الجمالية في قوله: (يطيح بهم ماضٍ) ليست سهلة المنال لمن لا يدرك فنية الشعر ولعبة اللغة، في أناقة التشكيل وحساسيته الجمالية، ليأتي قوله (وتمضغهم رحى) متناسباً مع قوله الشعري السابق: (وليل يماني يضيء.. ليجرحا). وهكذا يتحقيق التناسب الإيقاعي الهادئ بلغته الرصينة التي تخفي دهشة جمالية في الإسناد من جهة، ودهشة جمالية في هذا التوليف الفني المتدفق الذي يصل قمة الاستثارة والإمتاع. وهذا دليل على أن أناقة اللغة عند العلاق لا تنفصل عن رصانة تلك اللغة وهدوئها الذي يبعث اللذة الجمالية في المتلقي.
٭ ٭ ٭
والمثير في لغة الشعر عند العلاق، صياغة الأسئلة التأملية التي توسع من فضاء القصيدة بجدة ما تشير إليه من رؤى ودلالات، وما تفتحه في مخيلة المتلقي من استقطاب للمعاني المدهشة. في قصيدة «طفولة عابثة» يقول الشاعر:
أيّ طفلينِ عابثَـينِ ..
ملأنا بالندى كلّ حفرةٍ
وانطلقنا في حقولِ الشّـمّامِ:
نلحق شـمساً ما تزالُ طريةً
ثم نرمي في الهواءِ شباكَنا ..
أمرايا كانتِ الطيرُ حينَهـا،
أم مياهـا؟
إن الشعرية، هنا، ليست فقط شعرية التركيب والإسناد في رسم الدلالات والرؤى، إنما نحن أمام شعرية يانعة، تشبه الرفيف، أو النسيم الرقيق عندما يلامس أرواحنا، فهذا التساؤل الشاعري يفتح الباب على أشده لنعيش اللحظة الشعرية مجسدة في كلمات مبهرة في ملمسها وصداها الجمالي: (أي طفلين عابثين ملأنا بالندى كل حفرةٍ/ وانطلقنا في حقول الشمام]، هنا، يحيا الشاعر (الذكرى) حياة ماضوية رقيقة يبثها في لحظتها الطفولية الطازجة، لنعيش صفاء الطفولة وشقاوتها الجميلة، وهذه الشعرية لا يستطيعها بهذه الهدهدة والتناغم، إلا شاعر جمالي يمتلك الرؤية العميقة بكل تحولاتها .وهذا ما عبّر عنه بهذه الصورة المترفة التي تفيض بشعريتها: (نلحق شمساً ماتزال طرية)، ففي قوله: (ماتزال طرية) قمة التحليق البعيد في الدلالة على حالة البكور الشعري، ونداوة الشمس في صباحها الرقيق قبل بزوغ الشمس، وتكاثف أشعتها الحارقة، ثم إحداث هزة جمالية في المشهد الكله بتساؤله المثير: (أمرايا كانتِ الطيرُ حينها أم مياها)، وهكذا يدهشنا العلاق في تنقلاته الشعر، من قيمة فنية إلى أخرى، مؤكداً أنه شاعر جمالي بفكر جمالي وحساسية عالية في توليف الكلمات والجمل والصور، التي تلتقط اللحظات الرومانسية وتعيد تشكيلها بكل حيوية واتقاد .
والمثير حقاً أن اللغة الشعرية، عند العلاق، تحقق إيقاعها الجمالي من خلال دهشة الذكريات التي يبثها في مفاصل القصيدة، مفعمة بنداوة لحظتها المعيشة ومكتسبها الجمالي، وهذا كله قيمة فنية مضافة، تجعل من نص الشاعر فيضاً من العذوبة والرقة والجمال :
كم جميلاً كان الضّحى..
أيُّ طفـلٍ ينزل النهرَ عـاريـاً ..
ثمً يمضي لسـماءٍ
بعيـدةٍ
لا يراهـا ..
إن القارئ هنا ليس أمام شكل لغوي شعري فحسب، ويرسم بريشة الذكرى معالم أزمنة قد مضت، وإنما يحيا اللغة الشعرية مثل طفل، فتفيض بعذوبتها وحساسيتها المرهفة، فكم جميل، إبداعياً، ربط الطفولة باللغة وربط اللغة بالطفولة عبر هذه التساؤلات التي تلمس الكون بإحساس الطفولة وتلقائيتها: (أي طفل ينزل النهر عارياً ثم يمضي لسماء بعيدة لا يراها)، وكأن هذا الحلم الغض ما يزال يراوده ليحياه عبر بكارة اللغة وحيويتها التي تطل على عوالم، لا يمكن رؤيتها أو إدراكها بسهولة. وبهذا السحر الجمالي يأخذنا الشاعر علي جعفر العلاق إلى عوالمه الشعرية مندهشين بطزاجة اللحظة وحيوية التجربة التي تفيض على القارئ بجمالياتها ورؤاها النصية المفتوحة.
٭ ٭ ٭
ومن التحولات الجمالية التي تشهدها بنية القصيدة، عند العلاق، أنك تستشعر قيمة اللغة الشعرية وبكارتها من خلال المشاهد المدهشة التي تجعل لعبة الشعر، في النصّ، لعبة متكاملة جمالياً كما في قصيدة لماذا:
ملأتَ الهـواءَ أنـاشـيدَ ميّـتـةً..
ثُـــمّ عطّرْتَ أيامَنا
بالجثثْ..
من خرابٍ إلى هجرتينِ ..
ومن هجرتينِ إلى
ثالثةْ ..
التساؤل هنا يفضي إلى عتاب شديد يؤسسه الشاعر على إحساس مغترب مأزوم، ليعيش الطفولة في اغترابه حقيقة لا وهماً، ويعيش الحلم حقيقة طفولية مؤكدة، وليست مجرد خراب وهجرات متتابعة وأحزان. وبهذه الحساسية ينقلنا الشاعر نقلات شعرية مؤسسة على التنامي والحراك والاستثارة، ليعيش طفولته عبر اللغة تارة، وعبر الصور الرومانسية تارة أخرى، كما يعيش غربته، أو اغترابه من خلال الذكرى واسترجاع الأزمنة الماضوية، وعبر الهجرة والصور المؤثرة :
كنتَ أكبرَ من وطـنٍ ..
فلمـاذا صغُـرتَ
صغُـرتَ..
فاْصبحتَ أعظـمَ
من كارثةْ..؟
يلحظ القارئ هنا اغتراب الشاعر في لغته الشعرية وإحساسه المتوتر بالعالم المحيط ليخلق معادلته الانزياحية الصادمة (فلماذا صغرتَ صغرتَ فأصبحت أعظم من كارثة)، وهكذا يثيرنا العلاق بلغته التي تفيض على القارئ بحساسيتها العالية وطاقتها الخلاقة، وكأنه يعبر عن أساه عبر لغة انزياحية جمالية حافلة بالذكرى والحنين تارة واسترجاع اللحظات الماضية تارة أخرى.
تتمثل شعرية علي جعفرالعلاق في اللغة ومؤولاتها الثرية، التي تجعل القارئ يسبح في فضاءاتها مزهواً بدهشتها الإسنادية، وبكارة ما تبثه من دلالات على المستوى الفني والجمالي. وتلك هي ميزة النصوص الشعرية، المنفتحة على احتمالات التأويل التي لا يمكن استنفادها في قراءة واحدة .
ناقد من سوريا
عن القدس العربي
https://www.alquds.co.uk/%e2%80%ad%e2%80%ac%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9%e2%80%ad-%e2%80%ac%d8%ac%d9%85%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a9%e2%80%ad-%e2%80%ac%d9%81%d9%8a%e2%80%ad-%e2%80%ac%d8%ab%d9%84%d8%a7%d8%ab%e2%80%ad-%e2%80%ac/?fbclid=IwAR16G9sAFkte8HUNjvU662pDE4rwcymU4gB3_H7RPc4nsCt30pzazdmc1Iw