ثنائيات الماء و النار 2010

الصورة الشعرية ومرايا الماء والنار عند العـلاق

د. أحمـد عفيفي     د. سها السطوحي

من الصور المائية التي يجب أن نلتفت إليها، والتي كانت انعكاساً نفسيا لحالة الشاعر، صورة الماء الذي تحول إلى مرايا ، تلك المرايا التي تعكس حالتين: الحالة الأولى: حالة الشفافية، وهي الحالة المعادلة للحقيقة، أو الحالة الواقعية، والحالة الثانية: حالة التوتر والغموض والإضمار، إنها تمثل المعتم من الصور على أنها من المفترض أن تكون شفافة عاكسة لكل الحالات ، نفسية وواقعية، لكن ماء المرايا ليس في كل حالاته صافيا كما هو مفترض، إنه يبدو غائماً في بعض الأحيان معكراً، فالماء ماء ليلى ورماده طاف، إنها مياه مشققة ذابلة، بحيث يستطيع الإنسان أن يرى الضياع في ماء المرايا، يقول الشاعر في قصيدة: أغنية المرآة:

ما الذي يشتعل الليلةَ

في تياّركَ الغامض يا ماء المرايا

جسداً تجتاحه الفضّةُ،

برقٌ من حنين الروحِ،

وهمٌ  أم شظايا ؟

ويقول:

أرى ماء المرايا مائجاً فينا

استحلنا كلُّنا الآن مراياها

اشتعلنا في لظى الماءِ

تَرى فينا ندى فضّتها.

يبدو أن الامتزاج والتداخل قد خلط بين ماء المرآة وأجسامنا التي تظهر في المرآة، لقد أصبحت أجسامنا مرآة تتماهى مع الماء امتزاجاً و اختلاطاً، إنه امتزاج نفسي، يرى من خلاله الشاعر أن الجسد وماء المرآة صارا شيئاً واحداً، إلى أن يقول:

كلُّنا نجفِل من مرآتنا يوما

ونُصْغي لأنين الزمن الغائم:

ملتاعينَ

لن يُفلت طيرٌ أو حنينٌ أو أحدْ

آهِ، لا نيرانَ في المرآةِ

يا فاكهةَ الروحِ

ويا رمل الجسدْ..

هكذا يتعالى أنين الزمن الغائم مع غيوم المرآة وضبابيتها، في حالة التياع لتلك الأجسام التي لم تتحول إلى نيران في تلك المرآة ، وكأن ذلك كان متوقعا ، إنه امتزاج بين صوت الأنين وماء المرآة، بين الروح والجسد، بين الحسىّ والمعنوي بين العلوي والسفلي. إن الشاعر يموج في شعره أيضا بين المرأة والمرآة مزجاً فنيا، فالمرأة تصير مرآة له، والماء يصير مرآة لنا، والمرآة (المرأة) هي مرآة للوجود والكون والحياة. إن هذا المزج بين المرأة والمرآة يعطي مذاقاً خاصاً لكل منهما في حياتنا اليومية.

وليس الماء فقط هو الذي تحوّل إلى مرآة عند العلاق، (فهواء العشب مرآة، ونار الكهف مرآة) فالماء والهواء والنار تحول كل ذلك إلى مرايا، ولكي يبدو أنها كلها مرايا خادعة، إذ الهواء شيء هلامي غامض، وكذلك نار الكهف، بما في التعبير  من غموض، وبما للكهف من عتمة وجوانية، فإن كل ذلك لن يؤدي إلى حالة الكشف الحقيقية التي هي من وظيفة المرآة.

وإذا كان العلاق ابن الماء، كما يقول في قصيدته: حديث الطير:

أنا ابنُ الماءِ

لي ذاكرةٌ تغلي، حفرتُ ترابهَا،

الفوّار ، حتى نزَّ منها الدمُ

والذكرى ، وأصغيت إلى الأنهارِ

لا حبرٌ ولا امرأةٌ

هتافٌ غامض يعلو

يروغُ النهرُ فظاَّ مبهماً

كالحلم أو كالنومِ

أقول إذا كان الشاعر ابن الماء، وصاحب ذاكرة مشتعلة يصغى إلى الأنهار باحثا عن قصيدة أو امرأة مثيرة للإبداع، فإنه لا يسمع إلا غموض النهر كالحلم أو كالنوم، ولن يرى وجهه إلا غصنا ضائعا في الماء، كما قال في قصيدة: المشي بين أرضين

وجهىَ غُصنٌ ضائع في الماءْ

أحمل في نعاسه علامةً

يا قمرَ الكَرْخِ ويا حجارة السماءْ

وهنا “يتماهى الإضمار والمرآة- الرمز، الدالة على الانفتاح صوب الداخل يتعقب الحالات المبهمة الغامضة الداعية إلى استعارات جديدة تقوم على أنقاض استعارات أضحت متداولة لدى الشاعر، وبهذا التوجه الحادث تنزع الكتابة الشعرية إلى الإيحاء عوضاً عن أولوية المطابقة، بضرب من الإيحاء المطابق، لا المطابقة الموحية”.ومن هنا فهو يرى – عندما يتأمل هذه المياه – وجهه مبعثراً في رماد المياه:

يا رماد المياه بعثرتَ وجهي

في لياليك، يا رماد المياهِ

فانثر الطين في يديَّ طيوراً

هربتْ من بكائها في المقاهي

كما يرى أن خبـزته الناحلة( تخبّئ أوجاعها في المياه المشققة الذابلةْ)

ثم يرى نفسه أحيانا( قبّعة في مهب الريح والأمطار) حيث يقول:

في ليلكِ المائيَّ أنحدرُ

قُبَّعةً يلهو بها المطرُ

حيث يصير القلب عصفورة مائيةً

تغتالها الجزرُ

إنه ليل الماء الدال على ضبابيته وغموضه، ولعل ذلك ما جعل الشاعر يسائل تلك المرأة:

هل تومئين إلى الماءِ؟

إن المياه تخفف من ركضها

حين تلتفتينَ

وتعلن أن يديك أشدّ بهاءً

من الماء والظل بين الغصون النظيفةْ

إن هذا الحلم المائي الرمادي يمثل الغموض، وأن يديْ هذه المرأة أبهى من الماء وأبهى من ظل هذي الغصون النظيفة، هذا الظل المكثف الذي يفترض أنه حاد، وأنه أكثر تحديداً من أي شيء.

والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا وظف العلاق هذه المرايا المائية بهذه الكثافة في شعره؟ وهل لهذا التوظيف علاقة بالرؤية النفسية للعلاق في إبراز هذا الغموض، وتلك الفوضى المجسدة في ضياع وجهه في الماء؟ حيث وصفه بأنه رمادي اللون، وأن تلك المياه مشققة وذابلة، وأن على رماد المياه أن ينثر الطين طيوراً محلّقةً في الفضاء، إن العلاق يوظف مرايا الماء- كما أسلفنا- وكذلك مرايا الروح  ومرايا الريح ومرايا العشب أكثر من توظيفه للمرآة المعدنية أو الزجاجية، ولعل السبب يكمن فيما يلي:

أولا: للماء منزلة خاصة عند العلاق، فهو يخاطبه ويناجيه ويطلب منه أحيانا الفعل الكلامي:

خذني إلى مائها يا ماءُ

وأمثلة ذلك كثيرة منها قوله:

آه يا ماءُ

يا أيهذا العصىُّ الحنونْ:

لغةً كنتَ لي

حينما اخشوشن الآخرونْ

بل إن الماء يشارك الإنسان بالحواروالنداء (فكل له ماء يناديه).

إنه يرى فيه أحيانا الهدوء والسكينة ويرى فيه الترحال والاغتراب، يراه ساكنا ويراه متحركا، يراه مكتئبا كما يراه سعيداً، ينظر فيه، يحادثه كأنه صديق أو هكذا يبدو له، فقد وجدنا عند باشلار” الماء مثل كائن شامل : له جسدٌ وروح وصوت، وقد يكون للماء- أكثر من أي عنصر آخر- واقع شعري كامل، ويمكن أن تضمن وحدةً ما شعرية الماء، على الرغم من تنوع مشاهده، إذ يجب أن يوحي الماء إلى الشاعر بواجب جديد”.

هكذا يتعامل العلاق مع الماء بكل تنويعاته، فهو يعزف عليه لحنا شعريا جديداً دائما، يتعامل مع أشباحه وأوهامه وأحلامه وخياله”فها هو ذا حلم اليقظة ينتهي بأن يبني على الماء، ويحس بالماء مع أكبر قدر من الكثافة والعمق” إن صورة الماء توقظ فينا انفعالات عظمى، ولا تكبل خيالنا .

ثانيا: عندما ننظر إلى تعامل الشاعر مع مرايا الماء وماء المرآة، فإننا نرى أن الطبيعة تفتح له آفاقا خصبة للتعامل مع الصورة الشعرية والغوص في أعماقها، فهي من عناصر الخيال الطبيعية التي تفتح للشاعر آفاقاً رحبة للخيال والمحاورة، والوصول إلى المتلقي من خلال تلك الطبيعة التي تسهم في رسم الصورة الشعرية دون انغلاق، سيكون الشاعر في هذه الحالة منفتحا أكثر على ذاته وذوات الآخرين”فمرآة الينبوع فرصة (خيال مفتوح) والانعكاس الغائم قليلا، المائل إلى الشحوب يوحي ببعض الأمثلة… بينما تعطي مرايا الزجاج في نور الحجرة الساطع صورة أكثر ثباتا، سوف تغدو هذه المرايا من جديد حية وطبيعية، حين يتمكن الخيال المحيَّد ثانية من تلقي مشاركة مشاهد الينبوع والنهرومن هنا تكون انطلاقة الخيال لا حدود لها مع الماء الذي يمكن له مشاركة الشاعر أحلامه ومشاعره، على حين أن مرايا الزجاج لا تعكس تلك الصورة الحية النابضة، فهي  تحدُّ من حركية الشاعر ودفعه إلى آفاق عليا ، ولهذا كان عليه التعامل مع  مرايا الماء الذي يقاسمه مشاعره. ومن هنا “يجب إدراك الفائدة النفسية لمرآة الماء: الماء ينفع في تجسيد صورتنا، في إعادة قليل من البراءة والعفوية، إلى صلف تأملنا الخاص” لهذا كان شعر العلاق متّسما بـ(النداوة) ، فهو حين ينظر في الماء يرى أنه يمشي بين أرضين:

ذاك الزمانْ

وردة في المياه التي،

عافها المدّ مخبوطةً

إن ذاك الزمان وطن ممطر

كان يلعب فيه المحبّونَ

يزهر في رملهِ السيسبانْ

إن تلك الصورة المركبة صنعها الشاعر باقتدار فني، فعندما نظر الشاعر في الماء رأي أن الزمن الآني وردة في مياه راكدة ، وردة مجروحة، وهي تلك الأرض الأولى التي مشى الشاعر فيها، على حين أنه عندما تأمل ماضيه في هذا الماء، وجد هذا الزمان وطنا ممطراً ووجده كان مأوى لمرح المحبين، وأرضا يزهر فيها السيسبان. وتلك الأرض الأخرى التي قصدها الشاعر، هي ماضيه الجميل، إن ذلك الزمان مثل وردة مجروحة في الماء، لكنه أيضا أمطر داخل الماء ماء آخر، وماضيا آخر ، وأرضا أخرى.كان يسير فيها ممتلئة بالندى والأنهار والينابيع. إن باشلار قد وضع الشاعر الذي يتعامل مع المرآة في معادلة صعبة- كأنها قانون وطبقه على الشاعر الفرنسي (مالارميه) الذي احترمه باقتدار . يقول باشلار “على الشاعر الذي يبدأ مع المرآة أن ينتهي مع الينبوع، إذا ما أراد أن يقدم (تجربته الشعرية كاملة) فالتجربة الشعرية يجب – في نظرنا- أن ترتهن بالتجربة الحلمية. ومن النادر أن يخرج عن هذا القانون شعر مصوغ بعناية، مثل شعر (مالارميه، إذْ يقدم لنا اندماج صور الماء بصور المرآة” وذلك ما فعله الشاعر الكبير على العلاق في تعامله مع قصائده التي وظف فيها الماء منفرداً أو وظفه مندمجا مع نيرانه الغضة أو نيرانه الخضراء المتماثلة مع الماء رمزاً، أو نيرانه الحارقة الثائرة أو جمراته المشتعلة، كما أنه انتهى إلى الينابيع التي جسدها امرأة ووطنا وحقيقة، بل إنه جسدها صوتا نديا أيضاكما في قوله،

حينما جاءت امرأةٌ

جعلت من يديه إلاهينِ

ثم استحالت بسحرهما

امرأةً من لظى وحريرْ

تتلألأ مبتلةً برنين الينابيعِ

ممزوجةً بغيوم السريرْ

أما بالنسبة لمرايا النار، فإنها كانت محملة بكثير من المتناقضات، وهي أكثر إثارة للدهشة، لكن قيمتها تكمن في نقائها التام، ولهذا نجدها تتساوق وتتوازى مع الماء لتكون مرايا للإنسان، يقول الشاعر على العلاق في قصيدة: أغنية المرآة

شهوة مفترسة

تتخطى خشب المرآة

يغدو ذهبُ الموقد مرآةً

سرير النوم مرآة

وحواءُ تغنيّ :

جسدي

مرآه هذي النشوة المفترسةْ ،

أيّ ريحٍ أيقظت نيرانه الخضراءَ

في الليل، ومسّت جرسهْ؟

ثم يقول في القصيدة نفسها:

هواءُ العشب مرآةٌ

ونارُ الكهف مرآةٌ

فذهب الموقد هو النار “لأن جوهر الذهب عبارة عن نار كاملة” تحول إلى مرآة، ليس هو فقط، بل كل شيء تحول إلى مرايا: سرير النوم، هواء العشب، نار الكهف، ترى هل كانت النار في هذه الحالة رمزاً للشفافية والنقاء؟ هل كانت رمزاً للحقيقة؟ هل كانت رمزاً لإشراق الروح والنفس؟ هل تلك النار هي التي أشعلت الفجر وجعلته مرآة في قول العلاق:

ألكِ الفجرُ مشتعلاً كالمرايا

ولكفيَّ، موحشتينِ ، المساءْ؟