تجليات النص الخلاق 2015 

جماليات القصيدة المركّـزة في شـعـر العــلّاق

القصيدة ـ الصورة أنموذجاً

 

د. علي صليبي المرسومي

القصيدة الحديثة والصورة الشعرية:
 القصيدة العربية الحديثة بآفاقها ومعطياتها وحساسياتها هي قصيدة مفتوحة على كل الآفاق الفنية والجمالية الأخرى وبلا حدود، وليست منغلقة على ذاتها وطبيعتها وتاريخها، فهي لا تألو جهداً في التفاعل مع ما يجاورها من قضايا وتقنيات ورؤى من أجل تعزيز القيم الجمالية فيها بشرط الحفاظ على جوهرها الشعري من حيث الجنس والنوع، لذا ((اتجهت الشعرية العربية الحديثة في الطريق إلى تطوير نماذجها وتحديثها إلى الأنواع الأدبية المجاورة لها والفنون الجميلة البعيدة عنها نسبياً للنهل من خصائصها النوعية، وتطوير أنموذجها الشعري بها عبر تغذية العناصر الشعرية بعناصر الفنون الأدبية والجميلة الأخرى))(1)، في الطريق إلى نقل هذه القصيدة نحو مرحلة جديدة من مراحل التشكيل المتطورة، وربما كانت الصورة الشعرية بأشكالها المتنوعة أحد هذه السبل المعتمدة للتطوير والتحديث.
   إن موضوع الصورة الشعرية يعدّ من أهم الموضوعات التي تبحث في عناصر التشكيل الشعري، وقد أولاها النقاد والباحثون والدارسون المحدثون الكثير من الأهمية في القراءة والبحث والدراسة، ولا يكاد يخلو كتاب أو بـحث أو دراسـة تـدرس القصـيدة فـي الدرس النقـدي الحـديث من دون أن يأتــي عـلى مــوضوع الصورة، وقد رصد
الدكتور عبد الإله الصائغ في كتابه القيّم ((الصورة الفنية معياراً نقدياً))(2) كل ما كتب عن الصورة في المدوّنة النقدية العربية تقريباً، وكشف عن ثراء هذا العنصر من عناصر التشكيل الشعري، وربما كان من أولويات تجديد وتحديث الصورة الشعرية في النصوص الشعرية الحديثة هو ((الاتجاه إلى كشف نمط جديد من العلاقات ، تتجاوز أساس المشابهة والتماثل والنظرة المنطقية والنفعية التي اتسمت بها النظرة البلاغية القديمة))(3)، لتنفتح على علاقات جديدة تنقل
لصورة الشعرية إلى مراحل تشكيل متطورة تستوعب التجربة الحديثة للشاعر العربي، وهي تجربة معقّدة في مستوياتها الفنية والجمالية والفكرية والثقافية جميعاً.
 
القصيدة ـ الصورة نموذجاً خاصاً:
      إذا كانت أنواع الصور الشعرية في نماذجها الفنية قد حظيت بالاهتمام الأكبر من لدن هذه الدراسات والبحوث، فإن هذه الأنواع لم تتوقف على الأنواع التقليدية المعروفة، بل سعى النقاد والدارسون والباحثون المجتهدون إلى الكشف عن نماذج متطورة ولدت بفعل تأثير الفنون الأخرى في الفن الشعري، كالرسم والسرد والسينما والمسرح وغيرها، وقد تكون الصورة الفنية في القصيدة من أكثر عناصر التشكيل الشعري استجابة لهذا التأثر، لما تنطوي عليه من تفاعل مع بقية الفنون وتلاؤم مع معطياتها الفنية والجمالية، وكان من بين أهم الأنواع الجديدة التي كشف عنها النقاد هو ما اصطلح عليه بـ ((القصيدة ـ الصورة))، التي تقدم القصيدة بأكملها بوصفها صورة شعرية متكاملة.
    إنّ من أوضح التوصيفات التي حددت هذا النمط الصوري في القصيدة الحديثة ما عبّر عنه الدكتور محمد صابر عبيد من أن ((القصيدة – الصورة هي نمط من أنماط الصورة الكلية، ففي الوقت الذي تتكوّن فيه الصورة الكلية من مجموعة من الصور الصغيرة المستقلّة التي تشتبك فيما بينها اشتباكاً نسيجياً لتكوّن في النهاية صورة النصّ الكليّة، فإنّ القصيدة ـ الصورة هي صورة واحدة تؤلف نصاً شعرياً متكاملاً وتشتغل مراياها بفاعلية مركّزة داخل حدود الصورة))(4)، وهو ما يشير صراحة إلى أن القصيدة ـ الصورة هي قصيدة مستقلة تؤلفها صورة، يكون الشاعر فيها عارفاً بأهمية تشكيلها فيخصص لها قصيدة كاملة.
   هذه القصيدة ـ الصورة في نموذج تشكيلها على هذا النحو ((تتميز بتكثيفها وتقدم الفكرة والانطباع باختصار فنّي شديد))(5)، بمعنى أن خاصية التكثيف والاختصار الفني الشديد هي ما تتلاءم مع كون القصيدة قصيرة وتحتلّ صفحة واحدة فقط، حتى يسهل على الشاعر التحكّم بصرياً وذهنياً في صياغة صورته، وقد وصفها بعض النقاد والدارسين بأنها تنتمي في سياق نظم البناء الشعري إلى البناء التوقيعي ((المعتمد على الضربة الشعرية الخاطفة التي تستحضر في فعلها أكبر طاقة ممكنة من الإيحاء والتركيز والتكثيف والإشعاع، والضغط على نقطة التشكيل المركزية))(6)، بحيث تشكّل الصورة بؤرة القصيدة المشعّة والباثّة التي تتركز فيها التجربة في شبكة مضغوطة من الألفاظ المكونة للصورة.
 
خصائص القصيدة ـ الصورة:
    هذا النوع من التشكيل الشعري القائم على فعالية التوقيع الشعري يتمتّع بالكثير من الخصائص النوعية التي تعتمد على طبيعة تشكيل هذه الصورة، ولعلّ من أبرز ما ينتج في هذا الإطار ما يسمّى بـ ((التوقيعة)) التي تتحلّى بأعلى درجات التركيز والتكثيف و ((هي الوحدة الحيوية في الشعر التي لا تقبل الاختصار))(7)، لأنها تكون قد تخلّصت من كل الزيادات اللفظية التي لا تزيد من القيمة الفنية للصورة واكتفت فقط بالأصيل الذي لا يمكن اختصاره، وبذلك نصل إلى طبيعة التوصيف الشعري الذي قاربه الشاعر علي جعفر العلاق للقصيدة التي يراها النموذج الأمثل للقصيدة الحديثة، فهي عنده ((عمل خاص جداً، لا تذهب بنفسها إلى الآخرين دائماً، ولا تفتح مغاليقها لهم جميعا وفي كل وقت؛ فهي ليست أغنية أو حكاية، أو إعلانا. بل هي عمل غائم ومشعّ في آن واحد))(8).
    إذ كلما كانت القصيدة محتفظة بهذه الخصوصية ومشتغلة عليها بأناة وجدية وحيوية فإنها ترتقي إلى منصة الشعر الكبير الذي يعيش مع الأجيال، وهو ما يفسر الكثير من القصائد التي مضى على ولادتها آلاف السنين لكنها بقيت تعيش بيننا، قراءة وحفظا ودرسا وتمثلا، وتؤثر فينا على مختلف المستويات.
     وإذا كانت القصيدة التقليدية في السابق هي أشبه بخطوط متوازية قد تفتقر إلى الوحدة التكاملية بين أجزائها فقد أصبحت الآن نسيجاً موحداً متكاملا يصعب فصله(9)، لا يمكن النظر إليها على أنها مجموعة أجزاء بل هي جزء واحد ومتوحد في شكله وتجربته، ومن هنا يمكن القول إنه ((لا فاصلة في القصيدة ـ الصورة، ولا استقلالية لوحدة الشيء المؤلّف، بل استقلالية شمولية لوحدة الأشياء الممتزجة داخل كيان صوري تشتغل مراياه الشعرية بروح تشكيلية واحدة في منصّة التخييل))(10)، ولا يمكن قراءة هذه القصيدة قراءة صحيحة من دون فهم هذه الخاصية وإدراك حقيقتها.
    يعدّ عنصر الخيال من أبرز عناصر تشكيل القصيدة ـ الصورة إذ ينهض ((بتتبع مسار الصورة الجزئية وجمع شتاتها للخروج بصورة شعرية واحدة تمتد في القصيدة كلها))(11)، ولا تهتم فعالية التخييل الشعرية بقضية التتابع والتعاقب والتسلسل في سياقها المنطقي التقليدي، بل تعتمد على فعالية ((التركيز والتكثيف وتفجير الترابط الموضوعي بين عناصر القصيدة لكي نحصل على الوحدة الذاتية العميقة))(12)، التي يمتد نسيجها الصوري بين أجزاء القصيدة لتكوّن كلا مكتملا ومتوازنا ومندمجا في آن واحد.
    وربما يعتقد البعض أن هذا النوع من التشكيل الصوري سهلا وميسورا ويمكن كتابته بسهولة بوصفه يقوم على قلة الألفاظ ((غير أنه في واقعه ليس كذلك ، فتركيز القصيدة وتكثيفها في صورة تقتطع جانباً نفسياً متكاملاً لتعبر عنه ، يقتضي قدرة متميزة في الانتقاء للتجربة والموقف ، والاقتصاد في المفردات اللغوية وصور المحسوسات على نحو لا يقبل الاختصار ولا يخوض في التفصيلات، مستغنياً عن الزوائد والاستطالات التي لا توحي بل تقدح حيوية الصورة وتركيزها))(13)، لذا فإنّ هذا النوع من البناء الشعري الصوري يستلزم دائما ((اقتصاداً شديداً في عناصر التشكيل))(14)، لا يمكن لأي شاعر أن ينجح في إبداعه لأن الاقتصاد والتركيز الشديد في عناصر تشكيل الصورة يحتاج إلى وعي وخبرة وثقافة ومعرفة وحساسية شعرية عالية من الصعب توافرها بسهولة عند أي شاعر.
   يعمد الشاعر المتمكّن في هذا السياق ((إلى تكثيف تجربته إلى الحد الذي يجعل من القصيدة صورة شعرية واحدة))(15) على المستويات والأصعدة كافة، وهو ما ينتج مصطلح (القصيدة ـ الصورة) التي تحمل كل شحنات القصيدة الفنية والجمالية والفكرية والثقافية والرؤيوية، ويمكن تعليل ((السبب في ميل الشعراء إلى هذا النوع من القصائد هو ما تتمتع به من التركيز والتكثيف بحيث يمكن للشاعر التخلص من الاستطالات التي عانى منها الشاعر كثيراً))(16)، والاكتفاء بأقل ما يمكن من الألفاظ التي تؤدي دورها الشعري الأصيل في التشكيل والبناء والإيحاء بأعلى درجات الفن والجمال.
 
مقاربة إجرائية:
    في المقاربة النظرية حاولنا أن نستطلع بعض الآراء في علاقة القصيدة الحديثة بالصورة من جوانب متعددة، لأنّ الصورة تنتمي إلى حقول فنية وجمالية كثيرة منها التصوير الفوتوغرافي والسينمائي والتشكيلي وغيرها، وقد اعتمدت القصيدة العربية منذ أقدم عصورها على الصورة بوصفها عنصرا أصيلا من عناصر تكوينها، وهي في القصيدة العربية الحديثة طوّرت من عنصر الصورة بعد أن استعارت الكثير من تقنيات الفنون الأخرى التي تأثر الشعر بها، وقد حفلت القصيدة العربية الحديثة على هذا الأساس بالكثير من التشكيلات التي عبّرت عن وعي الشاعر الحديث بأهمية الصورة في مختلف أشكالها،حتى أصبحت من أهم موضوعات الدرس النقدي وانشغالاته وأبحاثه.
   على المستوى الإجرائي سنعتمد آلية معيارية لتعيين ما نصطلح عليه هنا بـ ((القصيدة ـ الصورة)) من أجل تحديد المصطلح في سياق معين، وهذه الآلية تقوم على اختيار كل قصيدة يعمد الشاعر إلى وضعها في صفحة مستقلّة، أي أن القصيدة ـ الصورة هي القصيدة التي تُكتَب على صفحة واحدة من صفحات الديوان أو المجموعة الشعرية، بحيث يمكن قراءتها قراءة بصرية وذهنية معاً، ولا تشتت القراءة عبر أكثر من صفحة، ولا شك في أن وضع القصيدة في صفحة واحدة بغض النظر عن عدد كلماتها لا يضعها الشاعر عبثاً، بدليل أننا نجد بعض القصائد يمكن للشارع أن يضعها في صفحة واحدة لقلة ألفاظها لكنه يتعمّد مدّها على صفحتين كي يُخرجها من إطار النموذج، بمعنى أن وضع القصيدة في صفحة واحدة له دلالة على هذا الصعيد، وهو ما وجدناه معيارا يمكن الاحتكام إليه في تحديد القصيدة ـ الصورة عند الشاعر علي جعفر العلاق، وهو يعدّ من أكثر الشعراء اهتماماً بهذه القضية وانشغالا بها، فهو يُعنى عناية بالغة بتوزيع المفردات على الصفحة البيضاء بطريقة تحرّض القارئ على قراءتها قراءة بصرية بمعية القراءة الذهنية التأملية.
   ومن هذا المنطلق أخضعنا المجموعات الشعرية العشر للشاعر علي جعفر العلاق لانتخاب نماذج القصيدة ـ الصورة بناءً على هذا المعيار، وقد تبيّن لنا أنها قليلة نسبياً إذ لا تكاد تتجاوز العشر قصائد بمعدل قصيدة لكل مجموعة، على الرغم من أنها لم تتوزّع بشكل عادل على كل المجموعات فقد احتوت مجموعة منها على أكثر من نموذج وافتقدت مجموعات أخرى هذا النموذج الصوري، وهو ما يجعل من دراستنا دراسة نوعية في نموذج صوري نرى أن العلاق على وعي به، وقد اشتغل عليه اشتغالا نوعيا خاصا دعانا إلى النظر فيه جماليا وتعبيريا بحيث يمكن عدّه علامة بارزة في أسلوبه الشعري الفني والجمالي.
 
القصيدة ـ الصورة ذات العنونة المفردة:
    العنونة المفردة لها خصوصيات قرائية تتلاءم كثيراً مع طبيعة القصيدة ـ الصورة، ولاسيما إذا كانت مفردة منكّرة كما هي الحال في القصائد التي انتخبناها بوصفها قصائد صورة في شعر علي جعفر العلاق وهي ((وحشة/مجيء/تناقضات/قرية))، فالعنونة تتميز بالتكثيف والإيجاز والاختصار وإشغال أقل مساحة ممكنة من سواد الكتابة.
    قصيدة ((وحشة)) نموذج من نماذج القصيدة ـ الصورة في شعر العلاق، يحاول الشاعر فيها أن يصوّر حالة الوحشة الخاصة به، ويظهر التركيز والتكثيف والاختصار التي هي من أبرز صفات هذه الصورة منذ عتبة العنوان، فالعنوان يقوم على منتهى الإيجاز في كلمة مؤلّفة من ثلاثة ألفاظ فقط، وهي نكرة، بمعنى أن كل صفات الاختزال موجودة في عتبة العنونة بحيث يتوقع القارئ سريان مفعول هذا الاختصار في المتن الشعري أيضاً:
لي وحشةٌ غضّةٌ بيضاءُ، أيقظها دمعي
وغنّى على أبوابها الحسـكُ،
والطينُ،
الطينُ أرخى في دمي يده حبراً
وهاجر من أجراسيَ السمكُ
والعاشقون حصىً يبكي ..
وأجنحةٌ زرقـاءُ،
لم يحتضنْ أعشاشها مَلِكُ ..                                    (17)
  في السطر الشعري الأول من المتن الشعري تتعرف عنونة القصيدة (وحشة) بأنها أولاً هي وحشة الشاعر نفسه ((لي وحشة))، ثم تكتسب صفتين اثنتين: الأولى ((غضّة)) دلالة على حيوية هذه الوحشة وقوتها وهيمنتها على كيان الشاعر، والثانية ((بيضاء)) دلالة على صفاء هذه الوحشة ونقائها وتفرّدها، وبعد ذلك يدخل الشاعر إلى ميدان رسم الصورة الشعرية لهذه الوحشة ودرجة اتصالها بالذات الشاعرة، فيرسم صورة يقظتها بعد أن كانت نائمة وغير فاعلة ((أيقظها دمعي))، والدمع هنا يحيل على تجربة مأساوية مرّة تقود إلى البكاء الذي يوصل على الوحشة، فصوت البكاء وماء البكاء وحالة البكاء هي التي أيقظت الوحشة ونقلت حياة الشاعر من الألفة التي كانت قبل حالة البكاء إلى الوحشة بعده.
   السطر الشعري الثاني ((وغنّى على أبوابها الحسكُ،)) يعمّق صورة الصوت وتأثيره في بناء الصورة من خلال فعل الغناء الذي يقوم به الحسك على البواب، وكأن الفعل الصوتي هنا مقصود بدلالة وجود الباب الذي يدل على مدلول مكاني مقصود ومحدد بالفعل، وهنا ينفتح معنى الوحشة على معطيات جديدة فيلا هذا السياق.
   ثم تظهر مفردات صورية جديدة تعمل على تعميق صورة الوحشة في تفاصيل الصورة الشعرية في مقدمتها لفظة ((والطينُ،))، بمرجعياتها المكانية والأسطورية والدينية والتاريخية، حيث تحتلّ في القصيدة سطراً بأكمله وذلك لفرط أهميتها وقوة حضورها، ومن بعد ذلك تتصدّر سطرا شعريا لاحقا تستكمل فيه صورتها ((الطينُ أرخى في دمي يده حبراً))، فلفظة الطين تظهر هنا بقيمتها الدلالية الأسطورية والمعرفية من خلال الألفاظ (دمي) الدالة على التجربة والكفاح الشخصي الذاتي من أجل الدفاع عن النموذج، و (يده) الدالة على الفعل والإنجاز والإبداع، و (حبرا) الدال على المعرفة والكتابة، لكن الطين في فعاليته الأسطورية لا يتوقف عند هذا الحد بل يواصل فعله في تشكيل الصورة، فتمتد الفعالية الصورية للطين إلى حاضنة الماء ((وهاجر من أجراسيَ السمكُ))، إذ يظهر الصوت مرة أخرى وتزداد فعاليته.
    ويظهر لفظ آخر بصيغته الجمعية له حضور كبير في الجانب العاطفي والوجداني من الصورة ((والعاشقون حصىً يبكي ..))، يتحوّل بجانب الطين من إنسانيته الوجدانية العميقة (العاشقون) إلى جماد مائي (حصى) ما يلبث أن يؤنسن مرة أخرى في الفعل (يبكي)، الذي يمنحه طاقة صوتية مضافة أيضاً، ويعطف عليها اللفظ الطائر الموصوف بالزرقة ((وأجنحة زرقاءُ،)) الدالة على اللون العابر للملكي ((لم يحتضن أعشاشها مَلِك)) للدلالة على خصوصيته وتفرّده، بحيث تتحول الوحشة في عتبة العنوان إلى خاصية نوعية متفردة لا يمكن أن توجد في أي مجال آخر مشابه.
  إن حشد حركية هذه الألفاظ في سياق صوري موحّد ومندمج ومركز يؤسس لقصيدة ـ صورة قامت أساساً على تشكيل نوعي خاص، فالصوت واللون والتفاصيل تشتبك فيما بينها اشتباكا اندماجيا لتشكل هذا النوع من الصورة، ليس على صعيد الشكل فقط بل على صعيد الدلالة التي تعكس خصوصية عالية لـ (وحشة)، فهي وحشة شعرية أولا، وثانيا هي وحشة شعرية تختص بتجربة شعرية معينة لا يمكن تطبيقها على تجربة أخرى، وكل ذلك احتشد في منطقة شعرية لفظية مركزة ومكثفة داخل صفحة واحدة.
     القصيدة الموسومة بـ (مجيء) هي الأخرى تعتمد نفس الآلية في تشكيل عنونتها، وتشتغل في إطار القصيدة ـ الصورة على مستوى تشكيلها، وهو عنوان مصدري يدل على وجود حكاية معينة تتضمنها القصيدة لها علاقة بالزمن والمكان والحدث الذي يوحي به العنوان، وتبدأ القصيدة بداية حكائية على لسان الذات الشاعرة:
أتيتُ نعشاً،
صرتُ قيثارةً
محروقةً
يأكلُ منها الدخانْ ..
تلتّفُ في أوتارها عشبةٌ
من جرحيَ الطينيّ،
فوق اللسانْ ..                                               (18)
  تبدأ الصورة الشعرية أولى مراحل تشكيلها من خلال السطر الشعري الأول ((أتيتُ نعشاً،)) الدال على صورة الموت المكفّن في النعش، لكن السطر الثاني من القصيدة يحقق انزياحا واضحا في تركيبة الصورة ((صرتُ قيثارةً))، ويمكن تصوّر العلاقة بين النعش والقيثارة على صعيد الصورة والصوت، حيث تسهم القيثارة في تنحية النعش من مشهد الصورة والحلول محله على مستوى الحضور اللفظي، لكن على مستوى الإيحاء تظل فكرة الموت المخبّأة في دال النعش حاضرة بشكل أو آخر.
   النعش الذي كانته الذات الشاعرة وتحولت بعد ذلك إلى قيثارة يغيب من الصورة وتبدأ القيثارة بالعمل الصوري في التشكيل الشعري، فتظهر في السطر الثالث إحدى صفات القيثارة التي هي بديل للذات الشاعرة وهذه الصفة هي ((محروقةً))، إذ تحيل هذه الصفة على النعش في طغيان دلالة الموت عليها، لكن الصورة لا تكتفي بهذه الصفة فقط بل تمتد إلى مساحات وصفية وحالية أخرى لتشكل صورتها المبتغاة شعريا.
   السطر الشعري اللاحق الذي يعدّ أحد أعمدة تشكيل صورة (القيثارة) المحروقة ((يأكلُ منها الدخانْ)) تعمّق صورة الغياب والوهم والتلاشي فيها، فحضور لفظ (الدخان) وتحويله إلى وحش بدلالة الفعل (يأكل) يعمق الصورة السلبية المأساوية للقيثارة المحروقة، ويجعلها تتلقى حالات أخرى تضاعف من مستوى غيابها، ثم تأتي الصورة الختامية التي تقفل القصيدة ـ الصورة فيها على حضور الذات الشاعرة التي تسهم في صناعة الصورة، على الرغم من أنها هي القيثارة أصلا ((تلتّفُ في أوتارها عشبةٌ/من جرحي الطينيّ،/فوق اللسانْ))، فالجرح الطيني القديم القادم من مرحلة الطفولة والشباب وهو يتجلى دائما فوق اللسان للتعبير عن أن الجرح هو جرح في الكلام واللغة، هذا الجرح يتحول إلى (عشبة) تعيق خروج أصوات القيثارة إلى الخارج، وإذا ما شئنا الذهاب أبعد من ذلك في التأويل من حيث ردّ دال (العشبة) إلى ملحمة كلكامش فإن القصيدة ـ الصورة هنا ستكون محمّلة بدلالة عميقة تعود على فكرة الملحمة، وهي تتحدث عن فكرة الحياة والموت والخلود إذ تكون الذات الشاعرة ـ النعش ـ القيثارة في علاقاتها المتشابكة داخل الصورة كلكامشا جديدا لا يمكنه الخلود في حياة مسكون بالموت.
   الحكاية الشعرية التي تضمنتها قصيدة ((مجيء)) هي حكاية موجزة ومركزة ومكثفة، اشتغلت في إطار صورة محددة داخل القصيدة، وسعى الشاعر إلى تخليصها من أية زيادة محتملة في اللفظ أو الدلالة بحيث لم تشغل على الصعيد الكتابي سوى صفحة واحدة فقط، تساعد القارئ في أن يقرأها أفقيا وعموديا في وقت واحد.
    تعتمد قصيدة ((تناقضات)) على عنونة مفردة منكّرة بصيغة جمع، وصيغة الجمع تختلف دلاليا عن صيغة المفرد في دلالتها وإيحائها، والعنونة منذ البدء تعتمد على ثنائية السلب والإيجاب، الشيء وضده، وتنهض القصيدة على آلية الرفض في معظم أسطرها الشعرية، وهو رفض يقوم على الإيجاز والاقتصاد اللفظي والصوري، بحيث تحقق القصيدة واحدا من أفضل نماذج القصيدة ـ الصورة:
لا فأسَ ..
لا ملعقة من ذهبٍ ..
لا خنجرٌ يضيءُ،
لا مسدّسٌ،
لا رمحَ في كفيهْ..
لا شيءَ أنقـى من دلالاتِ
اسمهِ، لا شيءَ أقسى
من حصى
يديـهْ ..                                                     (19)
  القصيدة ـ الصورة هنا مؤلّفة من ست جمل منفية تحيل بشكل أو آخر على عنوان القصيدة ((تناقضات))، وقد جاء النفي في الجمل الست في أعلى درجات الاختزال والدقة في تشكيل الصورة، ويمكن وضع ذلك بصرياً أمام رؤية القارئ ليدرك طبيعة التشاكل العلائقي بين أداة النفي المكررة ((لا))، وبين المنفيات ومكملاتها الجملية، عن طريق مرتسم بسيط يُظهِر هذه العلاقات بشكل أوضح:
           أداة النفي          المنفي                  التكملة الجُمليّة
             لا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأسَ ..
             لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ملعقة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من ذهبٍ ..
             لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خنجرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يضيءُ،
             لا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسدّسٌ،
             لا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رمحَ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في كفيهْ..
             لا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شيءَ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنقى من دلالاتِ
                                                اسمه،
             لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شيءَ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أقسى
                                            من حصى
                                          يديهْ ..
  إن ظهور صورة أداة النفي ((لا)) بحضورها البصريّ العمودي المتكرر بضغط احتشادي كبير لا فاصلة فيه بين (لا) وأخرى، من شأنه أن يشكّل القصيدة ـ الصورة تشكيلاً منفياً يجعل المتن الشعري يعمل خارج النص، والصورة توزّع المنفيات على حُزمٍ دلالية تتفاوت في زخمها الدلالي بين المعنى الحربي القتالي بمختلف أشكاله وإحالاته ((لا فأسَ ../لا خنجرٌ/لا مسدّسٌ،/لا رمحَ))، والمعنى المادي الذي يحيل على الثراء والارستقراطية ((لا ملعقة من ذهبٍ ..))، وبين النفي الذي يحيل على إثبات ما ((لا شيءَ أنقى من دلالاتِ/اسمه، لا شيءَ أقسى/من حصى/يديه ..))، على النحو الذي يجيب على أسئلة العنوان السيميائية ((تناقضات)) حين تتعدد المنفيات وصلاتها اللغوية في حين تبقى أداة النفي واحدة.
    تتمركز القصيدة ـ الصورة في البؤرة الصورية الجوهرية أداة النفي ((لا)) التي تحوم حولها الدوال الأخرى بطريقة دائرية، فمن سمات هذا النوع من التشكيل الصوري الشعري أنها ذات جوهر بؤري أساسي يجمع أجزاء القصيدة فيه وحوله، بطريقة تبدو للمتلقي أنه يقرأ صورة شعرية مكتملة وملتئمة ومتداخلة في أجزائها ومحتوياتها.
    أما قصيدة ((قرية)) التي تنهض أيضا على تشكيل عنواني مفرد منكّر فهي تقوم على آليات القصيدة ـ الصورة في عنوانها ومتنها معاً، فـ (قرية) نموذج مصغّر للمكان الريفي الواضح والمعروف للجميع وتكاد تغيب فيها الأسرار، فهو مكان محدود ومعلوم ومقنن يدركه الجميع بطريقة واحدة تقريبا، ويمكن تخيّل الصورة الموجزة التي ترتسم في ذهن المتلقي بسهولة وذلك لأن القرية مكانياً لا تشغل حيزاً كبيرا في متخيّل الصورة.
  تضمّ القصيدة ـ الصورة في (قرية) جزأين تصويريين متوازيين تقريبا، الجزء الأول يحمله سؤال شعري يستخدم أداة الاستفهام (الهمزة)، وقدّم صورة استفهامية تشبيهية الغرض التصويري منها تركيز الأهمية البالغة على المكان، والجزء الثاني تصويري استدراكي يقوم الشاعر فيه بنفي الجزء الأول من الصورة وإثبات الجزء الثاني على هذا الشكل:
أقطرةٌ
من ذهبٍ
في قدحٍ من طينْ؟
بل رجلٌ وامرأتانِ ..
بل ثلاثٌ ..
جئنَ من آخرِ ما في العمرِ
من بقيّةٍ، أو جئنَ
من بداية الحنينْ ..                                           (20)
   الجزء الاستفهامي الأول من القصيدة ـ الصورة هو تشكيل بلاغي يهدف إلى تعزيز العلاقة الوثيقة في رسم صورة القرية بين ((الذهب/الطين))، وما تنتجه من جدل أصيل وحقيقي بين ((قطرة من ذهب)) وبين ((قدح من طين)) يحيل على الرؤية الحضارية لمجتمع القرية ما ينطوي عليه من تفاصيل وعلاقات، لكن هذه الصورة الموجزة بلاغيا والمحدودة دلاليا ما تلبث أن تغيب تماما حين يستدرك الشاعر رؤيته الخاصة ليصف القرية في الجزء الثاني من القصيدة ـ الصورة وصفا اجتماعيا ثقافيا له علاقة بتجربته الخاصة:
بل رجلٌ وامرأتانِ ..
بل ثلاثٌ ..
جئنَ من آخرِ ما في العمرِ
من بقيّةٍ، أو جئنَ
من بداية الحنينْ ..
  فالفضاء الاجتماعي الثقافي للصورة هنا يوازي الفضاء التشكيلي في الجزء الأول، ولا يمكن إدراك الحسّ التصويري والدلالي المشترك بين الجزأين إلا من خلال استيعاب الرؤية الشعرية الجمالية التي تكوّن القصيدة ـ الصورة بجناحيها المختلفين، حتى بوسع المتلقي أن ينظر إلى الصورة العامة للقصيدة على أساس أن الجزء الأول التشكيلي منها هو ظهير صوري كخلفية للوحة، ويأتي الجزء الثاني بوصفه جوهر اللوحة، فمن يعاين الصورة يركّز على الجزء الثاني الذي يصوره الشاعر تصويرا سيرذاتيا متحركا، لكنه في نفس الوقت يرى الخلفية التشكيلية التي تقدم قدح الطين الذي يحوي على قطرة ذهب، من أجل أن تنتج القصيدة ـ الصورة في نهاية الأمر نموذج القرية التي يراها الشاعر ويحسها ويعيشها في متخيّله.
 
القصيدة ـ الصورة ذات العنونة غير المفردة:
     بما أن العنوان يشغل حيزاً مهماً في تشكيل الصورة الشعرية عموماً والقصيدة ـ الصورة خصوصاً، فإنه في هذا النوع من الصورة الشعرية يكون أكثر أهمية ويكون دوره التشكيلي أكثر تأثيرا وحيوية، ولا بدّ من ملاحظة الطبيعة الحكائية للعنوان حين لا يكون مفردا، أي حين يتكون من مجموعة من المفردات التي تحيل على حكاية ما، والعنوان على هذا الأساس هو ((المفتاح الأول لعالم الحكاية، وهو الدالّ والحكاية هي المدلول، وقد حدّد (جيرار جينيت) وظائف العنوان بأربع (الإغراء والإيحاء والوصف والتعيين) وهو مكمل للنصّ ودال عليه، وليس ضرورياً أن يحتوي أجزاء النصّ كلّها، وإنما يخلق الإيحاءات والتعالقات بين العنوان والنصّ، وتكثيف السردية ـــ بعيداً عن المباشرة والوضوح ـــ، وشعرية العنوان وسحريته بكلّ ما فيه من مباغتة وغموض وإبهام، وغاية وإدهاش، هي أبرز مظاهر الحداثة، ولا قيمة للعنوان أصلاً من دون نصّ))(21)، لأنه يرتبط بالمتن النصي ارتباطا وثيقا فهو أصله وحكايته وصورته.
   ومثلما يولي الشاعر علي جعفر العلاق العنونة المفردة في تشكيل القصيدة ـ الصورة في شعره، فإنه يولي العنونة غير المفردة أهمية كبيرة أيضا، وتتنوع هذه العنونة غير المفردة بين تشكيل التضايف، وتشكيل الوصف، والتشكيل الاستفهامي، ولكل تشكيل رؤيته الصورية في بناء هذا النوع من أنواع الصورة الشعرية في القصيدة الحديثة.
    تعتمد قصيدة ((طيور المنافي)) على عتبة عنوانية تضايفيّة مكوّنة من مضاف جمعي هو ((طيور)) ومضاف إليه جمعي أيضا هو ((المنافي))، وتحيل العنونة في المستوى الدلالي الأول منها على الطيور المهاجرة التي تصنع لها أوطانا مختلفة بحسب الحاجة، كما تحيل في المستوى الدلالي الثاني على المغتربين الذين اضطروا لترك أوطانهم فحلّقوا في المنافي، وهنا تنحصر الصورة العنوانية في دائرة صورية محددة.
   القصيدة ـ الصورة التي يقدّمها المتن الشعري بعد عتبة العنوان تقوم على نوع من الحوارية بين الشاعر وهذه الطيور المهاجرة في المنافي، وهذه الحوارية تأتي في الصورة الشعرية من طرف واحد بأعلى درجات الإيجاز والاقتصاد والتركيز، وهذا الطرف الراوي هو الشاعر الذي يبدو وكأنه يحاور نفسه، وكأن طيور المنافي المهاجرة من أوطانها كلها تلبثت في ذات الشاعر التي ينفصل الشاعر عنها مؤقتا كي يحاورها، ويقدم لها تجربته ووصاياه في خارطة طريق تلتئم في سياق صوري ملتحم يكوّن القصيدة ـ الصورة بأجلى خصائصها:
 إهدئي،
كالحصى، يا طيورَ
المنافي
لوّحي لبلادِ الأسى بالدموعْ
لنهرين من صبواتٍ
وجوعْ ..                                                    (22)
  القصيدة ـ الصورة هنا تتفرّع على جزأين، الأول يبدأ بالفعل ((إهدئي،)) المشبّه ((كالحصى))، وهو يتوجّه نحو المنادى ((يا طيورَ المنافي))، وهذا الهدوء المطلوب المشبه بالحصى يعطي للمشبه به المنادى ((طيور المنافي)) صفة الجمود والحركة في آن واحد، وصفة الجمود تأتي من طبيعة الحصى الحجرية الجمادية التي لا حياة فيها أصلا، وصفة الحركة تأتي من خضوع الحصى لحركة الماء على الشاطئ أو في جوف النهر، حيث يتحول إلى صورة متحركة من صور الماء، لذا فإن طلب الهدوء المشبه بالحصى يتأتي من طبيعة هذه الحركة الهادئة التي يتمتع بها الحصى داخل الماء وعلى شاطئه.
  أما الجزء الثاني من القصيدة ـ الصورة ((لوّحي لبلادِ الأسى بالدموعْ/لنهرين من صبواتٍ/وجوعْ ..)) فإنه يحيل دلاليا وصوريا وتشكيليا على القضية المركزية التي اشتغلت عليها القصيدة، وهي قضية العلاقة بين المنفي والمنفى والوطن، بكل ما تنطوي عليه هذه الإشكالية من مآسي وألم ودموع وتجارب مرّة، لذا يأتي الفعل ((لوّحي)) للدلالة على صورة الرحيل المؤلم، وهو يتوجّه نحو الوطن المكتظّ بالأسى الذي أصبح في الخلف ((لبلادِ الأسى))، حيث لا وسيلة لذلك سوى ماء الدموع التي تحكي قصة الهجرة وضياع الوطن، ومن ثم تأتي الصورة المكانية المائية ((لنهرين)) بكل ما تحملها من قوة الإحالة على نهري دجلة والفرات والوطن (العراق)، وقد أصبحا مكمنين للماضي ((صبوات)) والحاضر ((جوع)) بحيث يساعدا على هجرتهما، فهما أصل الخير والعطاء والثراء لكنهما لا يحملان لأبنائهما سوى الذكرى والجوع.
   بهذا الاقتصاد العالي في التركيب اللغوي والصوري للقصيدة انتهت القصيدة إلى تشكيل صورتها المكتنزة بالمعنى والقيمة من خلال ما نوع القصيدة ـ الصورة، التي تحشد كل إمكاناتها الصورية في منطقة ضيقة واحدة باثّة ومشعّة.
    وتعتمد العنونة في قصيدة ((أحزان عالية)) على التلازم النعتي بين الصفة والموصوف للتعبير عن طبيعة القصيدة ـ الصورة التي يحملها المتن الشعري، وتعبر لفظة ((أحزان)) المجموعة عن دلالة سلبية من حيث المبدأ، لكن الصفة ((عالية)) تنطوي على انزياح معين في طبيعة المعنى النعتي الذي توصف به ((الأحزان))، إذ إن الصفة ((عالية)) تدل على ارتفاع الشيء ويقابله منخفضة، ووصف الأحزان بها لا يستقيم في ضوء المعنى الطبيعي الرياضي لكن المعنى الشعري يمكن أن يحقق مستوى انزياحيا على هذا الصعيد.
  المتن الشعري للقصيدة هو الذي يوضح إشكالية الارتفاع والانخفاض بهذه الطريقة الشعرية الإيحائية التي تشكل القصيدة ـ الصورة على هذا النحو:
سقفُ روحي
خفيضٌ،
خفيضٌ
وأحزانها عاليةْ
والطريقُ إلى الفجرِ أسئلةٌ:
أفقٌ ذاكَ
أم هاوية؟                                                  (23)
   الجزء الأول (الذاتي) من الصورة يتعلق بوصف الأنا الشاعرة لذاتها بطريقة جدلية ((سقفُ روحي/خفيضٌ،/خفيضُ/وأحزانها عاليةْ))، فالعلاقة الصورية المركزة بين ((روحي)) التي ترسمها الذات الشاعرة من خلال سقفها الموصوف بـ ((خفيضٌ)) المكررة مرتين، وبين أحزان هذه الروح الموصوفة بـ ((عالية)) كما وردت في عتبة العنوان، هي التي تؤسس لنوع القصيدة ـ الصورة ومنهجها في التصوير والتدليل والتعبير، لكن الجزء الثاني من الصورة يذهب باتجاه آخر خارج مساحة الذات الشاعرة وأحزان روحها ((والطريقُ إلى الفجرِ أسئلةٌ:/أفقٌ ذاكَ/أم هاوية؟))، حيث تتجه الصورة نحو الخارج المكاني ((الطريق)) الذي يتحوّل إلى خارج زمني ((الفجر))، ومن ثم يتّجه نحو الخارج الفلسفي الإشكالي ((أسئلة))، على النحو الذي يتجلى فيه السؤال الإشكالي العميق لمعرفة الحقيقة بين مجالين أحدهما يناقض الآخر، الأول ((أفق)) بما يحمله من انفتاح واتساع وأمل ومستقبل، والثاني ((هاوية)) بما تحمله من انغلاق وضيق ويأس وموت، حيث تبني القصيدة ـ الصورة على هذا الشكل الجدلي بين الانخفاض والعلو، وبين الأفق والهاوية، من أجل أن تنتج الصورة دلالة أوسع وأعمق وأكثر شعرية.
     القصيدة الموسومة بـ ((للريح أم للضجر)) تتألف عتبة عنوانها من جملة مكونة من لفظتين مجرورتين تفصل بينهما ((أم)) التفضيلية التخييرية، بمعنى أنها تقوم أصلا في تشكيل صورتها على بنية جدلية تسعى إلى ترجيح كفة على كفة أخرى، وإذا كانت الكفة الأولى ((للريح)) تتمتع دلاليا بالكثير من معاني الحركة وتحمل بين طياتها شيئا من ملامح التخويف والترويع، فإن الكفة الثانية ((للضجر)) على العكس منها فهي تحمل الهدوء واليأس وانعدام المزاج وقلة الحركة والميل إلى العزلة، وهو ما ينهض عليه المتن الشعري في تشكيل ملامحه الصورية التي تقوم على هذه الثنائية التخييرية بين جناحين ومجالين ومفصلين:
ننحني كالخيول القديمةِ
لّليلِ، أم ننحني للشـررْ؟
ننحني لغبار مخاوفنا، أم تكسّرِ أعوادنا
في الخطـرْ؟
أيّ شيءٍ هو الأفقُ؟ أيّ السلالاتِ
نحن؟ : قبائلُ للرملِ أم
للهزائمِ؟ للريحِ أم
للضجـرْ؟                                                     (24)
   تبدأ الصورة بفعل أنوي جمعي تطلقه الذات الشاعرة ((نحني))، مشفوع بصورة تشبيهية ذات دلالة سلبية ((كالخيول القديمةِ))، حيث يبرز السؤال الشعري عن وجهة الانحناء بين مجالين هما ((لليل)) أم ((للشرر))، وإذا كانت هذه الطبقة التخييرية الأولى في رصيد السؤال الإشكالي فإن طبقات أخرى ما تلبث أن تأتي لتعمق الصورة، ففي الطبقة الثانية يذهب السؤال الشعري إلى منطقة أخرى موازية للمنطقة الأولى ((ننحني لغبار مخاوفنا/أم/تكسّر أعوادنا في الخطرْ؟))، يعقبه سؤال شعري آخر يذهب بالوجهة الشعرية للإشكالية نحو مساحة أخرى من التشكيل الصوري والدلالي ((أيّ شيءٍ هو الأفقُ؟/أيّ السلالاتِ نحن؟))، وربما يكون الفضاء الاستفهامي للسؤال الشعري على أعلى درجة من الغموض والالتباس والتعمية، على النحو الذي يُنتج صورتين أخريين يقومان على المفاضلة أيضا، الأولى ((قبائلُ للرملِ/أم/للهزائمِ؟)) والثانية ((للريح/أم/للضجرْ؟)) حيث تعود عودة دائرية على عتبة العنوان، ومن هنا وفي هذا القدر العالي من التركيز والخلاصة والتكثيف يمكن معاينة طريقة التشكيل الجمالي والدلالي للقصيدة ـ الصورة داخل تشكيل شعري محتشد بالمعنى والقيمة.
    قصيدة ((ثروة بابلية)) هي الأخرى تعتمد في بناء صورة عتبة عنوانها على البناء النعتي، حيث تأتي ((ثروة)) موصوفا و ((بابلية)) صفة، ويحيل التشكيل المكون من الصفة والموصوف على الكثير من المرجعيات التاريخية والأسطورية والمكانية والزمنية، حيث يسعى المتن الشعري إلى صوغ قصيدة ـ صورة تحاول الربط بين الإحالات الثرية التاريخي والأسطورية والزمنية والمكانية، وبين الراهن الذي يفارق هذه الإحالات كلها وينزوي في شبكة معانٍ سلبية تناقض التاريخ والأسطورة والمكان والزمن، فتجري القصيدة ـ الصورة هنا مجرى الحكاية التي يحاول الشاعر فيها عرض الصورة بين الماضي والحاضر على هذا الشكل:
مثلما يتحدّث غصنٌ
إلى حائطٍ ..
مثلما تتيبّسُ أوردةُ الريحِ
في الفلواتْ ..
هكذا يصرخُ البابليونََ
من وفــرةٍ في اثنتينِ:
الأسى
والطغــاةْ ..                                                   (25)
  تتألف القصيدة ـ الصورة في هذا المتن الشعري من مجموعة من الصور الصغيرة التي تلتئم فيما بعد داخل صورة كبيرة هي القصيدة ـ الصورة، الصورة الصغيرة الأولى ((مثلما يتحدّث غصنٌ/إلى حائطٍ ..)) تنشئ نوعا من العلاقة المقطوعة بين جزأيها (غصن/حائط) حيث يصبح الحديث المشترك بينهما حديث طرشان، والصورة الصغيرة الثانية الموازية لها ((مثلما تتيبّسُ أوردة الريحِ/في الفلواتْ ..)) تحكي تصويريا موت الريح وانعدام الحركة في الفلوات بكل ما يجلبه ذلك من يأس وسكون وعدم، وهو ما ينتج الصورة الصوتية الصارخة ((هكذا يصرخُ البابليونَ)) داخل مفارقة سيميائية ((من وفرةٍ في اثنتينِ))، لكنها سرعان ما تحيل الوفرة على معطى سلبي لا يتوافق مع صورتها الدلالية التقليدية ذات الطبيعة الإيجابية، فبمجرد أن نعرف هذه الوفرة في مجالين معينين هما ((الأسى/والطغاةْ ..))، ندرك فورا حجم المأساة، وتنجح القصيدة ـ الصورة في رسم رؤيتها الشعرية القائمة على تركيز الحسّ الصوري في مجال شعري محدد لكنه مشحون بالدلالة التعبيرية والتشكيلية والصورية.
 
القصيدة ـ الصورة الافتتاحية:
     القصيدة ـ الصورة التي يضعها الشاعر أحياناً بمثابة تصدير لمجموعته الشعرية تؤدي أكثر من وظيفة شعرية في هذا السياق، وهذه الافتتاحية التصديرية ((تتعدّد وتتنوّع بتعدد الشعراء وتنوّعهم وتعدد القصائد وتنوعها أيضاً، فهي ذات صلة بالحساسية التي تحيط بالنص قبل إبداعه وفي أثناء إبداعه وحتى بعد إبداعه، ويعتمد في ذلك على حساسية الظروف الخارجية المحيطة بإبداع النص غالباً، لكنها في الوقت ذاته تجيب على نوع من الأسئلة الشخصية والثقافية والمعرفية عند الشاعر، وقد تكتفي بالمستوى التزييني الادعائي أو الإعلاني المجرّد الذي لا يدخل في صميم تجربة الكتابة الشعرية وتفاصيلها وجزئياتها.))(26)، لكنها عند الشاعر علي جعفر العلاق تظهر بشكل شعري يحيل على تجربة المجموعة الشعرية التي تتصدرها هذه الافتتاحية وتمثلها بعمق، وهي تقوم على تشكيل صوري مركز يحيل على نموذج القصيدة ـ الصورة بشكل واضح وأصيل.
    في مفتتح المجموعة الشعرية الموسومة بـ  (شجر العائلة) يضع الشاعر علي جعفر العلاق تصديراً شعرياً خاصا به، وقد جاء هذا التصدير بتقنية القصيدة ـ الصورة، وهو يمثل الرؤية الشعرية العامة التي تشتغل عليها قصائد المجموعة، وجاء التشكيل الصوري للقصيدة ـ الصورة على شكل صورة استفهامية تركز فيها السؤال الشعري تركيزا كبيرا، وقد تكوّ،ت الصورة على هذا الأساس من ثلاثة أسئلة صورية تنتظم كلها في سياق تشكيلي واحد، وتنتج في النهاية القصيدة ـ الصورة التي نحن بصدد البحث عنها ومقاربتها.
   السؤال الشعري الأول في القصيدة ـ الصورة يحدد الجوهر الصوري المركزي الذي تعمل الصورة على بنائه، وهذا الجوهر الصوري هو ((عينيك)) بوصفهما العلامة الجمالية الظاهرة والبارزة التي يحملها الوجه مباشرة:
…. فمن أطلق في عينيكَ
هذين الغرابينِ الحزينينِ؟
  ينطلق السؤال الشعري من الشاعر وهو يخاطب (الآخر) الذي يحضر في الصورة من خلال عينيه اللذين هما محور السؤال، وجوهر السؤال يقوم على الاستفهام عن كمية الحزن الكبير التي تختزنهما هاتين العينين، بحيث تقود الشاعر الواصف السائل إلى تشبيههما بـ ((الغرابين))، ووصف هذين الغرابين بـ ((الحزينين))، تعبيراً عن قسوة هذا الحزن وتشاؤمه ووعوده التي لا تحمد عقباها بدلالة الغراب وما ينطوي عليه في الذاكرة الشعبية من سواد وتشاؤم وخوف من المستقبل، على الرغم من أن علامة السواد الذي يعكس جمالا معينا هي العلامة الأرجح في هذا الوصف، على الرغم من أننا لا نستطيع أن نستبعد علامة التشاؤم، فضلا على أن دال الحزن فيها يحيل أيضا على الجمال مرة وعلى التشاؤم مرة أخرى، بحيث يمكن القول أن التشبيه والصفة عمّقا في الصورة جوهر الفكرة الشعرية بشكل كبير.
   يتسع حجم السؤال الشعري الثاني بدلالة السؤال الشعري الأول إذ يفيد السؤال الثاني من السؤال الأول ويوسّع مساحة الصورة ويكثفها شعريا، فهو ينقل العينين من مجرد غرابين حزينين في الحاضنة الصورية الأولى إلى وجود طبيعي على الأرض، فكل عين منهما تتحول إلى وكر يختزن الأسرار في داخله، ولفرط حساسيته يكون قابلا للاشتعال من طرف فاعل قصدي يريد أن يبين طاقة الجمال الهائلة فيهما:
ومن أشعـلَ
في وكريهما الحَـْلـفـاءْ؟
   فمن الحركة الشعرية الموصوفة بالانطلاق في الصورة الأولى ((من أطلق)) إلى الحركة الشعرية الموصوفة بالإشعال في ((من أشعل)) في الصورة الثانية، تنتقل صورة العينين من غرابين حزينين إلى وكرين مملوءين بالحلفاء، حيث يحيل ذلك على الطبيعة المائية الزاخرة بالمعاني والدلالات والجمال، وعلى صعوبة إشعال الحلفاء فيها لولا أن جمال العينين من القوة بمكان بحيث يكون بوسعهما إحراق كل شيء، وهو ما يعمّق الدلالة في الصورة ويجعلها أكثر حرارة وتدفقا وجمالا وشعرية.
    السؤال الشعري الثالث الذي يختم بناء القصيدة ـ الصورة ويجعلها قادرة على التمظهر الصوري بحيث تصلح لأن تكون تصديرا بالغ التأثير والدلالة كما أراد الشاعر، يستفيد أيضا من إمكانات السؤالين الشعريين الأول والثاني، ويحاول أن يمدّ تأثير جمال العينين وسحرهما وأسطوريتهما إلى أطراف الطبيعة الأخرى التي تحتشد بها الصورة المائية للطبيعة، فتمتد سلطتهما خارج حركية التأثير في الرائي الشاعر فقط:
ومن فــزّز
في الفجــرِ
طيور المــاءْ؟                                                  (27)
   إذ تبدأ الصورة الاستفهامية التي يحملها السؤال الشعري الثالث والأخير بإعلان دخول وحدات شعرية جديدة إلى مساحة القصيدة ـ الصورة، الوحدة الأولى هي وحدة السؤال الفعلي الذي كان في السؤال الشعري الأول ((من أطلق))، وفي السؤال الشعري الثاني ((من أشعل))، وجاء في السؤال الشعري الثالث ((من فزّز))، وكأن هناك تطورا دراميا في طبيعة الحراك الفعلي بين حركة الإطلاق وحركة الإشعال وحركة الإفزاز، ثم تدخل وحدة طبيعية جديدة ذات طبيعة زمنية خاصة هي ((الفجر))، ووحدة طبيعة أخرى ذات طبيعة طيريّة هي ((طيور الماء))، على النحو الذي يشير إلى أن جمال هاتين العينين أمتد سحره ليفزز طيور الماء الهادئة المطمئنة، سواء في دلالتها الطيريّة المباشرة أو بالدلالة الرمزية الممكنة حيث تتحول طيور الماء هذه إلى بشر يعشقون الماء فيتلبثون بقربه دائما طلبا لنداء الأسطورة والحياة والخصب، فتأتي هاتين العينين لتسحرهما إلى مستوى الفزز، وهو أعلى مستوى ممكن من الاستجابة الآنية الساحرة التي لا يتمكن العقل من التحطم بها حيث تتفوق العاطفة وتهيمن على فضاء الاستقبال.
    يتكرر هذا النوع من القصيدة ـ الصورة في مفتتح المجموعة الشعرية الموسومة بـ  (نداء البدايات)، والقصيدة ـ الصورة هنا تأتي أيضا على شكل عتبة تصدير يحاول الشاعر فيها أن يحقق المقولة المركزي التي تشتغل عليها قصائد المجموعة، وتعتمد القصيدة ـ الصورة هنا على فعالية مركزية أكثر تكثيفا واقتصادا من الافتتاحية الأولى في المجموعة الشعرية ((شجر العائلة))، وذلك لأن فعالية التشكيل الصوري الشعري فيها يعتمد على شخصية مركزية تخضع لملاحقة الشاعر الواصف هي شخصية ((الطير))، بكل ما تحمله هذه الشخصية الطيريّة من إحالات زمنية وأسطورية وثقافية ودينية وطبيعية.
   تنهض القصيدة ـ الصورة على حركية الفعل الثلاثية التي تنو فيها الصورة نموا دراميا أيضا، وفي كل حركة فعلية تتشكل رؤية شعرية تحيل على مغزى الدلالة في القصيدة، وتبدأ حركية الفعل الثلاثية بالفعل ((حلّق)) حيث تبدأ الحركة من الأسفل إلى الأعلى، من الأرض إلى السماء، ومن ثم تتمّ متابعة الشاعر الرائي لها:
حلّق الطائرُ حتى آخر الذكرى،
وحتى آخرِ اليأسِ:
   فعل التحليق الذي يقوم به الطائر ((حلّق الطائرُ)) يتجّه كما قلنا إلى الأعلى، إلى السماء، ويظهر هنا الأعلى، السماء في نموذجين اثنين، النموذج الأول هو نموذج ذهني له صفة زمنية ماضوية  ((حتى آخر الذكرى،))، إذ إن الذكرى تسكن قبو الذهن المظلم الذي يعود على تجارب الماضي وما اختزنته الذاكرة من أحداث وصور وتجارب، وهذا الطائر يتجه إلى أقصى الذكرى حتى يقفل الماضي ولا يبقى شيء بعده، وحين تُقفل الذاكرة لا يبقى أمام الذاكرة التي كشف ظهرها الطائر سوى ((اليأس))، حيث يحلّق الطائر أيضا ((وحتى آخرِ اليأسِ))، وهنا يحصل إقفال كبير في حدود الصورة ويموت الأمل تماما من الماضي والحاضر والمستقبل، في تشكيل صوري بالغ المأساوية والمرارة واللاجدوى.
  الفعل الثاني الذي يسهم في تطوير درامية القصيدة ـ الصورة ((أرخى)) يعمل على توكيد الصورة المأساوية، حين يستسلم الطائر الباحث عن الحرية والحب والمجد لمصير رحلته المرتهنة بالخيبة والفراغ والموت البطيء، فيفقد الأمل وتموت فيه الحركة ويصبح جزءا من الحالة الشعرية التي تحيل على فضاء اليتم:
وأرخى،
لشـذا اليتــمِ جناحيهِ
القديمينِ،
   الفعل ((أرخى)) يعمل هنا بكامل طاقته الدلالية، لذا تركه الشاعر على سطر شعري مستقل بشكله وحساسيته ومعناه، ويُسند هذا الفعل هنا إلى ((لشذا اليتمِ جناحيهِ)) ليعطّل حركة الجناحين اللذين هما سلاح الطائر في الحياة، فهو بلا جناحين كيان ميّت لأنه يفقد أداته الحقيقية في الحياة والحركة والفعل والإنتاج، لذا تأتي كلمة ((اليتم)) بالغة الشعرية والتدليل والتصوير للحال الشعرية التي انتهى إليها الطير، ومن ثم تأتي الصفة ((القديمين،)) لتساعد في مضاعفة التشكيل السلبي المأساوي للصورة.
   وعلى هذا الأساس فإن الفعل الثالث ينتهي إلى توكيد حالة الغياب حيث يصل التطور الفعلي الشعري الدرامي إلى منتهاه:
وغــابْ..                                                      (28)
   إن فعل الغياب المعطوف على الفعلين السابقين ((وغابْ..)) يوصل الحكاية الشعرية التي تضمها القصيدة ـ الصورة إلى نهايتها، فالغياب يعني حلول الظلام وانعدام الرؤية، لكنه في الوقت نفسه يعني أن وراء الغياب شروق محتمل، على النحو الذي يخلق نوعا من الجدل الصوري في أرجاء القصيدة ـ الصورة بين غياب انتهت إليه دراما الصورة الشعرية عبر أفعالها الثلاثة، وهو نهاية مظلمة لوحدات الصورة وحراكها الشعري المكوّن لها، وبين المستقبل الذي يخضع لاحتمال أن تشرق الشمس ثانية ويزول الظلام وينتهي الغياب، ويستيقظ الطائر مرة أخرى ويسترد قوة جناحيه كي يحلق بهما إلى جهة أخرى غير هذه الجهه التي تورّط في التوجه إليها في المرة الأولى، وهنا تؤسس القصيدة الصورة بالرغم من طاقتها الاختزالية الهائلة والاقتصادية الكبيرة لجدل صوري من نوع جديد.
   إن هذا النوع من القصيدة ـ الصورة الذي يعتمد على الافتتاحية الشعرية التصديرية التي يضعها الشاعر كعلامة أولية على رؤيته الشعرية ومنهجه الشعري في المجموعة، من شأنه أن يبني رؤية عامة يمكن للقارئ أن يتبناها للدخول في مشروعه القرائي، ويستفيد منها لفهم قضايا وقيم وحالات هذه المجوعة الشعرية، وهذا النوع من التشكيل الصوري غالبا ما يكون موجزا لكي يعبر بأقل الكلمات عن أوسع المعاني والدلالات، وهذا الإيجاز يحيل على القصيدة ـ الصورة التي يمكنها أن تحتوي قلة الألفاظ وسعة المعاني وتعددها وتنوعها.
 
هوامش البحث:
(1) جماليات النص الأدبي، أدوات التشكيل وسيمياء التعبير، د. فيصل صالح القصيري، دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، اللاذقية، ط1، 2011: 81.
(2) الصورة الفنية معياراً نقدياً، د. عبد الإله الصائغ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1987.
(3) الشعر الحر في العراق منذ نشأته حتى عام 1958 (دراسة نقدية) ، يوسف الصائغ، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2006: 32.
(4) مرايا التخييل الشعري، أ.د. محمد صابر عبيد، عالم الكتب الحديث، إربد، دار جدارا للكتاب العالمي، عمّان، ط1، 2006: 194.
(5) الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث، د. بشرى موسى صالح، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994: 161.
(6) مرايا التخييل الشعري: 194.
(7) التفسير النفسي للأدب، عـز الدين إسماعيل، دار العودة – دار الثقافة، بيروت: 76.
(8) ها هي الغابة فأين الأشجار، علي جعفر العلاق، أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، ط1، 2007: 7.
(9) الصورة الأدبية، د. مصطفى ناصف، دار الأندلس، بيروت، ط3، 1983: 209.
(10)مرايا التخييل الشعري: 195.
(11)صور البحر في الشعر العربي الحديث بالخليج (1960-1980م)، هيا محمد عبد العزيز الدرهم، دار الثقافة، الدوحة، ط1، 1986: 181.
(12)شعرنا الحديث إلى أين ؟ غالب شكري ، دار الآفاق الجديد ، بيروت ، ط2 ، 1978: 124.
(13)الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث : 162 .
(14)مرايا التخييل الشعري: 194
(15)مرشد الزبيدي، بناء القصيدة الفني في النقد العربي القديم، ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1988: 117.
(16) إشراق مظلوم التميمي، تداخل الفنون في شعر سعدي يوسف، من إصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية، ط1، بغداد، 2013: 29.
(17)سيد الوحشتين: 85.
(18)نداء البدايات: 5
(19)الأعمال الشعرية : 402.
(20)الأعمال: 395
(21)البنى السردية، نقد القصة القصيرة، عبد الله رضوان، دار الكندي للنشر والتوزيع، عمان، ط2، 2002 : 8 .
(22)سيد الوحشتين: 27.
(23)سيد الوحشتين: 37.
(24)حتى يفيض الحصى بالكلام: 35.
(25)حتى يفيض الحصى بالكلام: 71.
(26)شعرية الحجب في خطاب الجسد، محمد صابر عبيد، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 2007: 52.
(27)حتى يفيض الحصى بالكلام: 51.
(28)الأعمال: 165.