العلاق حياة في القصيدة 2015 

حـاوره عبداللطيف الوراري
 
 
فعالية الشعـر، فعالية النقـد..
س: ما/ من الذي قاد الشاعر فيك إلى النقد؟ هل هي الحاجة إلى المعرفة، أم سياسات القصيدة نفسها، حيث تصغي وتتأمل أسرار الكتابة؟
ــ كلاهما رُبّما، ورُبّما هاجس ثالث لم أدرك حقيقته بالضبط حينها. كل ما أتذكره، وما كنت أعيشه بعمق ولذة، أنّ كتابة القصيدة وكتابة المقالة، كلتيهما، كانتا تترافقان تقريباً. لم تكونا نشاطين متباعدين. وكان كل منهما يلبي حاجةً نفسيةً ملحة، إضافةً الى ما ينهضان به من عبء البوح أو عبء المعرفة.
ولا أنسى، هنا، أنني أجريت حواراً مع الرحل الكبير جبرا إبراهيم جبرا، في عام 1964 على ما أذكر. ثم نشرتُ في مجلة (الأديب) البيروتية، في السنة نفسها، مقالةً عن ديوانه ‘المدار المغلق’؛ وكانت هي المقالة الأولى التي تنشر لي في مجلّةٍ عربية.
س: كيف ظللتَ تحتفظ بتوازنك الخلّاق بين فعّاليتي الشعر والنقد، وكأنّهما ليسا على طرفي نقيض؟
ــ الحفاظ على هذا التوازن لم يكن وليد وعيٍ أو تصميمٍ بطبيعة الحال. لكنّه كان وليد إحساسٍ رافقني منذ البداية، هاجسٌ غامض لكنه قوي ودائم. كان كالخوف على القصيدة أو الغيرة عليها. كنت أكتب القصيدة باستغراق تام، انقطاع إلى مناخاتها المتأججة؛ وكنت، حين أدخل لحظة الكتابة، لا أترك للوعي أن يُشوّش على تلك اللحظة النادرة، ليس هناك إلاّ القليل من اليقظة، ما يكفي لإضاءة جملة، أو عبارة، أوما يكفي لإبقائي ساهراً على لغتي سهراً مشوباً بالنعاس. في لحظة الكتابة الشعرية أقطع مصدر الضوء، فلا يأتيني منه إلا خفوته المشع أو عتمته المتلألئة.
أما في لحظة الكتابة النقدية فالأمر مختلف. أذهب إلى الكتابة النقدية وفي النفس بقايا من شطحات الشاعر، ومزاجه الفوّار. بقايا من انتقائيته، وافتتانه باللغة. أنا، ناقداً، لا أكتب في كل شيء. لست كالناقد المحترف، جاهزاً للعمل في كل لحظة، ولا أريد أن أكون كذلك. هناك فرح داخليّ، يحركني للكتابة عن هذا الشاعر أو ذاك، وهذه القصيدة أو تلك.
وهكذا فمناخ الكتابة النقدية، عندي، لا يتم في الغالب إلاً في مناخٍ من الاحتفاء والشغف والانفعال الصافي. وأنا هنا أتحدث عن عادات الكتابة ومناخاتها الشخصية، لا عن مستوياتها الإجرائية أو ركائزها الثقافية.
وكما ترى فإن هذا المسلك النقديّ لا يضعني على تضادّ حاد مع مسلكي الشعريّ، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى أكسبتني الممارسة الطويلة للكتابة مناعة داخلية أصون بها لغتي الشعرية من سطوة الوعي، وأحمي بها دراساتي من خطر الانطباع أو الافتقار إلى البراهين النصية.
س: ما رأيك في الحكم القائل بأنّ النقد الذي يكتبه الشعراء يظلُّ مختلفاً عن النقد الأكاديمي الصارم؟
ــ دعني أضع جملـة اعتراضية هنا. قـد لا ينطبق هـذا الوصف تماماً على نقد الشعراء جميعاً، كما أنه لا يشمل بالضرورة النقد الأكاديميّ كله، لكنه يظل صحيحاً، في عمومه. هناك نقاد أكاديميون قدموا إضافاتٍ مرموقةً للنقد العربي، في مراحله المختلفة، وساهموا في تحديث نبرته، وأدواته، وتصوراته المنهجية، وكان ذلك من خلال ما كتبوه ومن خلال ما ترجموه أيضاً.
ويبدو لي أن الاختلاف الذي أشرت إليه في سؤالك متوقّعٌ تماماً، ولا بد منه. فالنقد الذي يكتبه الشعراء نقدٌ مغاير، في الغالب، للنقد الأكاديمي أو الاحترافي في جوانب كثيرة. إنّه أكثر جرأةً وأكثر مرونة. له خفة العبارة، وتحضّرها، وله يقظتها الحسّية أيضاً.
إلى ذلك فهو يضيق بما يحتفي به النقد الأكاديميّ من التزامات أحياناً. أعني الاحتفاء الفائض عن الحاجة بشكليات البحث، والولع بالنقول، والإفراط في التوثيق، والنزوع المدرسيّ. قـد يكون بعض ذلك ضروريّاً، لكنه لا يكون كذلك في حالات كثيرة.
س: ما الذي كنتَ تريده من الشعر عبر الذهاب-الإياب بين الممارسة والنظرية؟
ــ كنتُ أحسُّ، ومنذ شبابي الأول ربما، أن السير في هذا الطريق، ذي الاتجاهين، قد يوفر لتجربتي، بشطريها الشعريّ والنقديّ، ما تحتاجه من نضج ضروريّ، يجعلني أكثر وعياً بكتابة القصيدة، ويضمن لأدائي النقديّ تأثيراً أكبر، أعني يجعله مصدراً للمتعة أيضاً.
وكنت، من جانب آخر، كلما كتبت عن النصوص الأخرى أزددت وعياً بقصيدتي الخاصة، وكان العكس صحيحاً أيضاً، فكلما نضجت قصيدتي أحسست بقدرة إضافية على معايشة نصوص الآخرين واكتشاف عوالمهم.
 
في تحـوُّل الفعالية وتأثيراتها
 
س: ما أثر جامعة (إكستر) البريطانية، ومجلة (الأقلام) على تجربتك النقدية؟
ــ دراستي في جامعة إكستر وضعتني في إطار من العزلة المثمرة، ليس هناك ما يأخذني بعيداً عن الكتاب، عكفت على تنمية القدرة على تطبيق ما كنت قد قرأت وأقرأ من كتب نقدية. وكانت أطروحة الدكتوراه مجالاً نافعاً، لوضع قراءاتي موضع الاختبار.كان عليّ أن أتشرب ما أقرأ، وأرتفع به قدر ما أستطيع إلى مستويات إجرائية ملموسة، وأدرب نفسي على معايشة النص الشعريّ تحديداً وفق مقاربات جديدة.
أما تجربتي في مجلة الأقلام فقد أخذتني إلى صميم الحياة الثقافية، كان جزء مهم من المشهد الأدبيّ، عراقيّاً وعربيّاً، يتنفس على صفحات مجلة الأقلام. صحيح أنها لم تكن تتمتع به مجلات أخرى كـ (فصول) و(مواقف) و(الكرمل) من روح المغامرة الحرة؛ غير أنها كانت، رغم ذلك، نافذةً مهمة اِطّلعتْ من خلالها النقدية العراقية والعربية على الكثير من الرؤى والاتجاهات الجديدة، كالبنيوية والأسلوبية والظاهراتية ترجمة وتأليفاً. وكانت مجلة الأقلام واحدة من المجلات التي تعرفنا من خلالها على الكثير من جهود كمال أبو ديب، مثلاً، في مجال البنيوية تعريفاً وإجراء.
س: ما تأثير قراءاتك الجمالية والنقدية على جملتك الشعرية خاصة، وتجربتك الكتابية عامّة؟
ــ أشرتُ في القسم السابق من هذا الحوار إلى تأثيرات مؤكدة تركتها قراءاتي الأولى في الجماليات الفرنسية: الرمزية والسوريالية تحديداً. أورثتني شغفاً بصفاء التعبير. كنت أعنى عناية مبالغاً فيها أحياناً باللغة المفتونة بذاتها، البعيدة عن فائض القول. أو التي تتفانى دائماً في خدمة المعنى المباشر. ولم يكن ذلك مقصوراً على لغة القصيدة وحدها، بل تجاوزها إلى تجربتي الكتابية كلّها.
ــ اِبتداءً من كتابك النقدي “مملكة الغجر” (1981)، ومروراً بـ “دماء القصيدة الحديثة” (1988) و”في حداثة النص الشعري” (1990) و”الشعـر والتـلـقي” و”الـدلالـة  المـرئيـة” (2002) و”ها هي الغابة فأين الأشجار؟”، و”قبيلة من الأنهار: الذات، الآخر، النصّ” (2007) و”من نص الأسطورة الى أسطورة النص” 2010، يتركّز اهتمامك النقدي والأكاديمي على دراسة الشعر وتأويله. لماذا يُمثّل الشعر المرجع الأساس في مشغلك النقدي؟
ــ يبدو لي أن تاريخ الممارسة النقدية لا يسعفنا بأمثلةٍ كافية على نُقّادٍ كتبوا في صنوف الإبداع النثريّ والشعريّ بمستوىً واحدٍ من الكفاءة. قد تجد ناقداً تفتنه أجناس أدبية بذاتها، وتتحدد حركته، غالباً أو دائماً، في إطار هذا الأفق. الناقد لا يمتلك حماسة موظف المبيعات، كما أنه ليس مُعلناً تجاريّاً يتوجب عليه إظهار الانحياز ذاته لكلّ مُنْتج، مع أن حياتنا النقدية شاهدة على نُقّاد من هذا النوع.
س: نلاحظ أنّك في مجمل كتبك النقدية كنتَ تُقارب الحـداثة الشعرية في تجلياتها العربيــة المختلفـة. هل الحداثة في الشعر تفترض بالضرورة مفاهيم السيرورة والقطيعة والتقدّم إلى أمام؟ وهل الحداثة حداثات وفقاً لتأويل الزمان والمكان؟
ــ الحداثة مفهومٌ ملتبسٌ إلى حدٍ كبير. إنّ الكل، في مشهدنا الشعريّ العربيّ، يدّعي الانتساب إليها، وأنه الابن الصافي لرؤاها أو تجلياتها الشعرية، لكن منجزه الابداعيّ لا يؤهله لهذا الادعاء الضخم.
لا أرى الحداثة مفهوماً زمنيّاً بشكل مطلق، ولا أراها تقدماً خطياً، يتجه إلى الأمام  دائماً. إنها لحظةٌ جماليةٌ خاصة، أو إدراكٌ جماليّ للعالم، تنصهر فيه الذات بالموضوع، والجمالي بالتاريخي، والوعي بهذيانات الروح.
والحداثة، كما أراها، ليست اتصالاً بكل ما مضى من تحوُّلات الشعر فقط، بل هي أيضاً حصيلة الانقطاعات والتعالقات والشكوك الدالة، والفاعلة في هذا التاريخ.
كما أن الحداثة ليست شيئاً، أو قيمة نهائية، أو معياراً ثابتاً يمكن تكراره أو إعادة إنتاجه، إنها حركة في النفس والجسد والحياة، وهي تختلف، تجلّياتٍ ومفاهيمَ، باختلاف الأفراد، وتفاوت البيئات، وتباين الأمم. وليس لها صيغة واحدة قابلة للاستنساخ، ولا تحظى بالإجماع دائماً. لذلك فإن النص الحداثيّ متغيّر وسابق لأوانه، وهذا ينطبق على الشعر العربي بطبيعة الحال، قد يواجه بالمعارضة أو الإهمال في مرحلته، وقد يمرّ، كنجمة خافتة، دون أن ينال ما يستحق من العناية، ثم يعاد اكتشافه لاحقاً حين تتوفر له قراءة ثاقبة تعيد اكتشاف فرادته من جديد.
س: هل استطاعت منجزات الحداثة الشعرية أن تُغيّر ذائقة التلقي ورؤيته إلى العالم والأشياء؟ وإلى أيّ حدٍّ يمكن اعتبار تلقّيات السائد كانت دائماً تشكل عائقاً أمام الأعمال الحديثة التي راجعت مفاهيم الكتابة وإيقاع الذات والمتخيّل؟
ــ إن ما أنجزته الحداثة الشعرية العربية كثيرٌ ومتنوّعٌ، وهناك ضمن هذه الغزارة وهذا التنوع فرادات شعرية عديدة، لكنها تظل، في الغالب، اجتهادات فردية لم تفلح رغم شعريتها العالية في تغيير بوصلة التلقي كما ينبغي. لذلك يمكنني القول إن ذائقة التلقي ما تزال أقوى تأثيراً من منجزات الحداثة الشعرية العربية. إنّه لشيء محزن أن شريحة ليست قليلة من طلبة الجامعات، بل ومن الأساتذة أحياناً، لا تحمل الحد الأدنى من الوعي بالشعر الحديث، أو مصطلحاته أو المعرفة حتى برموزه الكبيرة.
وقد ألقت هذه الذائقة، وما تزال ربما، بشيء من ظلالها على بعض التحوُّلات الجذرية في شعرنا الحديث، وأبطأت من حركتها.
س: في كتاباتك النقدية الأخيرة، نراك انتقلتَ من وصف الموضوعات والأساليب إلى الاهتمام أكثر بالبنيات العميقة في الشعر التي تضجّ بالاحتمالات وأجراس القاع التي تعد بشهوة اللانهائي، مثل التلقّي والتناص وكيمياء اللغة ولانهائي الذات. هل بوسعنا أن نقول إنّ خبرة الشاعر- العارف هي التي تقود إلى هذه المنطقة الخطرة في الشعر، تلك التي تعزُّ عن الوصف وتطبع النقد بإبداعيّة بدلاً من أن يكون مجرد قول ثانٍ؟
ــ لا بد من الإشارة إلى أنني، ومنذ محاولاتي النقدية الأولى، كنت أُولي شكل القصيدة وبناء الفكرة الشعرية عنايةً خاصّة. كانت كيفية القول الشعريّ لا ماهيته هي ما يستحوذ على اهتمامي كلِّه.
ومع ذلك فإنّ الوعي وتجلياته في الممارسة لا انفصال بينهما. النضج في وعي الكتابة، لديّ، لا يجد اكتماله إلاّ في نضج أدوات الإفصاح عن التجـربة. وهـذه الأدوات، بدورها، تزيد التجربة حدة وصفاء. لذلك فإنّ التحول في مستويات التعامل مع النصوص محصلة طبيعية لفائض الخبرة أولاً، وللتعالق الحاد بين الملكة الشعرية والاستعداد النقديّ في الذات الواحدة.
ونتيجة لهذا التلاحم القاسي والحميم بين هاتين الطاقتين، كان لي، أو حاولت أن يكون لي، منحاي الخاص في ما أكتب من نقد، منحىً يكون فيه النقد أدخل في باب الخلق الأدبي منه في باب العلم أو البحث الجافّ المحض. وتكون فيه اللغة النقدية على قدْرٍ عالٍ من النقاء،  وترف التعبير، والبعد عن الترهُّل. وكأنها مصدر نبيل لرفاهة القول، ومجده القائم بذاته. لذلك فإن اللغة ليست مجرد وسيلةٍ للتوصيل، أوخادمة لقولٍ أوّل أرفع منزلة منها، بل هي جزء حيّ من جمالية الأداء النقديّ وأحد تجلياته الخلاقة.
س: تقول “في حداثة النصّ الشعري” إن الحداثة لا تتحدّد بـ”الخروج عن إطار البيت أو القافية الواحدة”، بل في “الرؤيا الحديثة” التي تُجسّد فعل التجديد، تجديد النص وأدبيّته. ما طبيعة هذه الرؤيا في الشعر؟ وهل كلّ شاعر حديث هو راءٍ بالضرورة؟ ثُمّ هل ترى أن الشعر مجرّد جنس أدبيّ، أم هو مطلق ومتعالٍ نصّياً؟
ــ حداثة القصيدة ليست مُماشاة لتقليعة، أخاذة، شائعة. هذه المماشاة قد يكون لها سحرها المؤقت، لكنها بضاعة سريعة الافتضاح. الخروج على نظام البيت الواحد في حدّ ذاته، لا يضمن للقصيدة جِدّتها. إحساس الشاعر، أو إدراكه للحياة، ووعيه للعالم من حوله وعياً جماليّاً مغايراً. بغياب هذه الأعمدة الروحية تظل القصيدة إناءً يُعاد تلميعه بين فترة وأخرى ليحمل الخمرة ذاتها. جِدّة القصيدة ليست في الجلد الذي ترتديه، بل في روحها الجديدة، وفي توترها الجماليّ، وفرديتها الفريدة التي تحصنها ضد التماثل والقطيعيّة وتشابه النبرات.
ومن هنا ليس من المتاح لكلّ شاعر أن يكون جديداً حقّاً، حتى لو كانت قصيدته قد امتثلت لكل متطلبات الحداثة المتداولة، أو الشائعة؛ لأنّ حداثةً كهذه لا تعدو كونها حداثةً جاهزة تقع خارج عذابات الروح، ولا تمس من الحداثة إلاّ ضواحيها البعيدة أو قشرتها الخارجية. وهكذا فإن الشعر، في كثير من الحالات، ليس صفة للنص. إنّه كُمون آسر، لسحر لا يستيقظ إلاّ على يَدَيْ شاعر مقتدر. والقصيدة المتحققة هي ما تتلقاه اللغة من فيض الروح، واندفاعات الخيال الخصبة المحيرة.
س: نستخلص من قراءتنا لتصوّرك النقدي لمفهوم الحداثة أنّه يقوم على  المغامرة اللغوية، تحديث المعنى واعتماد المرجع التراثي. هل الحداثة بهذا التصوُّر تشمل جميع أشكال الشعر، بما في ذلك قصيدة النثر نفسها؟ وترتيباً على ذلك، هل قصيدة النثر التي كتبها الروّاد أدخلت “رعشة جديدة” في الشعر العربي؟
ــ سأبدأ معك من نهاية الخيط، شعراء النثر أو شعراء التفعيلة لا يمكن وضعهم في سلة واحدة، لكل شاعر مذاقه الخاص ونبرته الشخصية. وأنا أتحدث هنا عن شاعر الموهبة المرموقة. ولا يمكن أن ينوب شاعرٌ عن شاعرٍ آخر، حتى لو كان لهما النفوذ الشعريّ ذاته. إنّ كليهما يلبي مطالبنا الجمالية والروحية بطريقته الخاصة.
لا أزال مؤمناً أن معظـم ما في القـول الشعريّ من سحر، لا يتأتى إلاّ من اللغـة بكل تجلياتها أولاً، ثم تأتي  العناصر الأخرى لتكمل اللعبة الشعرية. كما أن الشاعر الذي لا نشم في عظامه رائحة الأسلاف، بعبارة إليوت، شاعر يفتقر إلى الكثير من مقومات الفعل الشعريّ المؤثر. وأنا هنا لا أستثني قصيدة النثر من رائحة التراث هذه. يمكنني أن أستدعي سركون بولص كمثال ناجح لشاعر النثر الذي تشربت نصوصه، حدّ الارتواء، ما في التراث العربيّ والرافدينيّ، خاصة، من خصوبةٍ روحيّةٍ وجمالية.
لا شك في أنّ لشعراء النثر الكبار تأثيراً على البعض من شعراء النثر المتأخرين، لكنني لا أظنه عميقاً. إنهم أقل تأثيراً من نظرائهم من شعراء التفعيلة الكبار: السياب، البياتي، أدونيس، في قصائده الموزونة، محمود درويش، سعدي يوسف. لقد كان لهؤلاء تأثيرهم الكاسح في مراحل مختلفة من تطوُّر حداثة القصيدة العربية، منذ شبابها الأول حتى الآن.
س: في ظلّ الواقع الشعري الجديد الذي تغشى سماءه قصيدة النثر التي هجم عليها أدعياؤها أكثر من خلصائها، ويافطات ما بعد الحداثة، وخطاب الموت والنهاية، هل بإمكاننا أن نتحدّث عن أزمة، وعن رعب في الآداب، وعن أوهام ومخاطر جديدة تطال حقل الكتابة برمّته؟
ــ  إن قصيدة النثر، ممكنٌ شعريّ ضخّ في عروق القصيدة العربية حيويةً شعريةً دافقة. وكان لشعرائها الأوائل إنجازاتهم المهمة. كذلك الأمر بالنسبة للمتميزين من شعرائها من جيل الستينات وما بعدها، مثل سركون بولص، قاسم حداد، أمجد ناصر، عباس بيضون، نوري الجراح، محمد آدم، سيف الرحبيّ، سالم العوكلي، وآخرين كثيرين..
غير أن هذه القصيدة تتجه، لدى الكثير من كتّابها، وفي هذه المرحلة تحديداً، إلى الوقوع في وهـمٍ خاصٍ يتعلق بشعريتها: هل كل نثْرٍ معتنى به هو شعـر بالضرورة؟ أكلّ ما يجافي الإيقاع ويذهب إلى النثر الخالي من شبهة الشعر هو خلقٌ فـذّ؟ حتى الخطأ في اللغة، حتى المباشرة الباردة، حتى الجهل بالتراث صارت ركائز مهمة لدى البعض ممن يكتبون قصيدة النثر هذه الأيام.
كما أن الكثير مما يتمّ تداوله، الآن، من مقولات ما بعد الحداثة هو في حقيقته امتدادٌ لما جاءت به الحداثة منذ نصف قرن، وليس قطيعةً معها أو انقلاباً جذريّاً عليها. إن الكثير من مقولات ما بعد الحداثة كالتشظي، والفوضى، واللايقين، والشكل المفتوح، والصمت، والقراءة الخاطئة، وغير ذلك التقاطات قد تصدق على نصوص بذاتها، لكنها لا ترقى إلى مستوى التصور المتماسك أو المقولات القابلة للفحص والتحقق.
إضافة إلى ذلك فإن اللهاث وراء ما بعد الحداثة، وترديد مقولاتها بانبهارٍ جارف، لا يمثل في الكثير من جوانبه إلا مماشاةً لموضةٍ سائدة أكثر منها تشرُّباً لأفكارٍ واجتهاداتٍ قابلةٍ للتطبيق. وإذا استبعدنا ما علق بتيار ما بعد الحداثة من تهويل وإثارات، يظل الكثير من أفكارها، كم أشرت، امتداداً للكثير من أفكار الحداثة. تبدو لي هذه الحركة أحياناً وكأنها لعبٌ فكريّ، فيه من الإثارة أكثر مما فيه من الإبداع الذي يصمد لاختبار الزمن وخروقاته
 
في وضعيّة النقـد الأدبي اليـوم
 
س: من خلال مشاركتك في العــديــد من المهرجانات الشعرية والمؤتمرات الأدبيـة في كثير من البلاد العربية، ومواكبتك للإصدار النقدي الجديد، كيف تنظر إلى وضعية النقد الأدبي اليوم؟
ــ إذا اسثنينا بعض الأسماء النقدية العالية، التي تركت بصماتٍ واضحةً في حركتنا الأدبية، فإن لدينا كمّاً نقديّاً مترامي الأطراف. غير أن مشهـدنا النقـــديّ الراهـن يمثل كتلة كبرى تفتقر إلى التجانس أحياناً، وتشتمل على تشظيـات كثيـرة.
وأكثر ما يتهدد النقد العربيّ الآن ربما أنه نقد شلليّ في بعض جوانبه، يتبادل المنفعة كما يتبادل الإيذاء. وهو، أحياناً، ذاكرة أكثر منه ضميراً. إنّ المعرفة النقدية قد تظل معلقة في فضائها التذكريً دون أن تهبط إلى قاع الروح، لتختلط بعصب الناقد ومخيلته وضميره الصافي. لذلك قد نجد هذا الناقد منتجاً لبضاعة نقدية خاضعة لأخلاقيات السوق.
كما أن هناك من النقاد من تحوّلت لديه الممارسة النقدية إلى عزلة عن النصّ ولسببين قد يكونان متناقضين. فهناك من حالت بينه وبين النصّ لغة احترافية، متاهية، مغلقة، وشديدة الضيق. تُغرّب الشاعر عن قصيدته، وتجعل العمل النقديّ ممارسة خاصة بالناقد نفسه، وهناك من يذهب إلى النقيض السيّء، عندما يكتب نقداً كالوجبات السريعة، صحفيّاً، تبسيطيّاً، وفي عجلة من أمره دائماً.
ويمكن أن نجد عينة أخرى من النقاد تعاني من برود جماليّ فاضح، فالناقد منهم قـد يمتلك وعياً بالنقـد، ومعرفة باتجاهاته، لكنه يفتقر إلى الرهافة الكافية التي ترتفع به إلى مكنون النصّ الشعريّ، والإصغاء إلى نبرته الخاصة. لذلك فهو عاجز، غالباً، عن تحويل معرفته النقدية الى سلوك جماليّ، يتماهى مع النصّ، فيغنيه حين يفجر ممكناته التأويلية، ويغتني به حين يختبر قدرته هو على تحويل المعلومة إلى سلوك، والتصور إلى إجراء.
س: ألا تلاحظ كيف غطّى معجم الشكلانيّات المنهجية أو الإخوانيّات التي تتسم بالسطحية والمحاباة على المشهد النقدي والثقافي العام، وهو ما بات يُمثّل عقبة كأداء أمام النقد الصادق للعمل الأدبي، وبالتالي يجعل النقد متلكّئاً في رصد التحولات الخطيرة التي يعرفها شعرنا المعاصر، وتقريبها من القارئ والجمهور بعامّة؟
ــ في إجـابة سابقة، أوضحت بعضاً من مظاهر الخلل التي تتفشـى في جوانب متعددة من مشهدنا النقديّ هذه الأيام. إن طغيان النموذج اللسانيّ فى الممارسة النقدية، والإغراق في حرفية نقدية مبرأة من لطف الروح وسلطة الضمير، والتعامل التبسيطيّ مع النصوص، والانصراف إلى جرد الموضوعات بعيداً عن أبنيتها الإيقاعية واللغوية والتركيبية، إن كل هذا قد أدى الى إلحد من التأثير الضروريّ للنقد على الذائقة العامة، وعلى إسهامه في تفتح العملية الإبداعية.
س: إلى أيّ مدى أفاد الناقد العربي من مناهج النقد الحديث من بنيوية وسيميائيات وتفكيكية ونقد ثقافي، في تطوير آليات تحليله لعُدّة النص شعره ونثره؟ وما صحة الادّعاء بأنّ جزءاً مهمّاً ممّا يتردد من هذه المناهج لا يعكس فهماً حقيقيّاً لأصولها ومنابتها المعرفية؟
ــ فيما يتعلق بالإفادة من المناهج النقدية الحديثة، تختلف الحصيلة، كما أرى، باختلاف الناقد العربيّ من جهة، وباختلاف المنهج النقديّ الغربيّ من جهة أخرى. هناك أمثلة ممتازة للتطبيق العربيّ لبعض المناهج الغربية، كالبنيوية والأسلوبية مثلاً، غير أن الأمثلة التطبيقية الناجحة للتفكيكية أو السيميائية تكاد تكون معدومة. إنّ ما قُدِّم من تطبيق لهذين المنهجين لا يقول شيئاً مهمّاً. وقد وصل بعض هذه الإجراءات إلى مستوى الرطانات أو الدوران في حلقات مفرغة، أو الإغـراق في الإرهاب المصطلحيّ غير المنتج. ويعود السبب، في جانب مهم من هذه الظاهرة، إلى النقل الآليّ غير الخلاق لهذه المناهج، الذي يغفل خصوصية النص العربيّ وجمالية اللغة، وفرادة النبرة.
س: من خلال عملك بالتدريس في جامعتي بغــــداد والمستنصريــة، ثُمّ في جامعـــة صنعاء، وفي جامعة الامارات العربية المتحدة منذ عام 1997 إلى الآن، حيث تدرّس الأدب الحديث والنقد؛ كيف رأيت مستوى النقد الأكاديميّ، وهل من إضافة نوعية قدمها هذا النقد؟
– لقد سبق أن أشرتُ إلى الإسهام النوعيّ للكثير من نقادنا الأكاديميين، غير أن ذلك لا ينفي أن الكثير من جامعاتنا العربية تعجُّ، هذه الأيام، بالمدرسين لا الأساتذة، إنهم مدرسون من حملة الشهادات العليا، يكتبون بحوثهم، في الغالب، بدافع الحصول على الترقية العلمية، أو تمديد عقودهم لأطول فترة ممكنة.
س: أحببت أن أستطلع رأيك في ما إذا كانت المعرفة، الأدبية والشعرية تحديداً، قد أخذت تتراجع في المدارس والجامعات، بشكل مريع ؟
ــ لا شك في أن هناك فوارق نسبية بين هذه الجامعة وتلك، في هذا البلد أو ذاك. غير أن المشتركات العامة متوفرة. ثمّة انحدار واضح في الإقبال على تحصيل المعرفة بين طلبة المدارس والجامعات على حدّ سواء. وهذه الظاهرة آخذة في التنامي بشكل محزن حقاً. وهي ظاهرة تجد انعكاسها في المجتمع أيضاً، فالثقافة والمعرفة الأدبية بخاصة تخوض معركة خاسرة ضد ثقافة الاستهلاك، والأنترنيت، والتلفزيون، والمجلة الرخيصة، والحياة السطحية، والمتع السهلة الميسورة. من جانب آخر، لا بد من التنويه إلى أن هذه الظاهرة ليست عربيةً فقط، إنها حصادٌ عالميّ مرّ. في كتابه المعروف “كيـف نقـــرأ ولمـاذا” يتحدث هارولــد بلــوم بمرارة عن المستوى الثقافيّ المتدني للطلبة في جامعة ييل الأمريكية التي يعمل أستاذاً فيها. هذا وضع الطلبة في جامعة ييل، وهي من أعظم جامعات العالم، فكيف بطلاب جامعاتنا العربية التي لم تحظ واحدة منها بترتيبٍ، ولو متأخر، ضمن الجامعات الخمسمئة في العالم. حقاً، نحن أمام كارثةٍ ثقافيةٍ حقيقية.
س: وهو ما أشار إليه في أحد حواراته الـأخيرة المفكر الإيطالي أمبرتو إيكو نفسه حين اكتشف أنّ المعرفة في المدارس والجامعات أخذت تتقهقر بطريقة لا ترحم. وإذاً، دعني أسألك: كيف تنظر إلى العلاقة بين جامعاتنا العربية والحياة؟ أعني صلتها بهواء الحياة الواسع، هل من إمكانية حوار بين الجامعة وإيقاع المجتمع وتشكل ثقافته وعاداته؟ أم أنها كتلة أكاديمية منغلقة على ذاتها؟
ــ سؤالك هذا يقودني إلى أمسية أمضيتها، قبل سنوات، في ضيافة كمال أبو ديب بمدينة أكسفورد العريقة. خرجنا في جولة ليلية بسيارته، ومررنا على جامعة أكسفورد وجزء من مكتبتها، ثم وقفنا نتأمل تاريخ تأسيسها، قبل قرون. أكملنا، بعد ذلك، جولتنا بالجلوس في إحدى المقاهي الراقية. نبّهني أبو ديب إلى لافتة معدنية عميقة الدلالة: تاريخ تأسيس المقهى. في القرن نفسه. هكذا هي المجتمعات العظيمة: الجامعة والمقهى، كلتاهما حاجة فكرية واجتماعية ونفسية، كلتاهما مطلب للعقل والروح، ومطلب للجسد.
لا شك في أن هناك، في أيّ مجتمع متحضر، حواراً  بين الجامعة وهواء الحياة. قاعة الدرس تمد الحياة بالكثير من أسئلتها ومكتسباتها المعرفية، كما أن ما يقع خارج الجامعة لا يقع بعيداً عن مجتمع المعرفة بالضرورة. الكثير من رصانة القاعات أو نقاشاتها الفتية أو العميقة، مشوب بفضاء الحياة وارتجالاتها الحية. هناك ملكية مشتركة بين الجامعة والحياة، إنهما فضاءات مشتركة يتم فيهما تبادل كل شيء: الأسئلة والإجابات، القلق والتأمل، الوعي والتلقائية؛ إن الحياة مشتبكة بالجامعة كما أن الجامعة مشوبة بالحياة.
أما بالنسبة لمجتمعاتنا العربية، فالقطيعة تكاد أن تكون محكمة. وهذا ما ينعكس بشكل محزن في قاعات الدرس. الحياة تتّجه مسرعة إلى خارج الثقافة، أو بعيداً عن الوعي الضروريّ بالأشياء والقيم والاتجاهات. إن الطلبة، إلاّ في حالات نادرة تقريباً، ليسوا مهمومين بالثقافة أو الأدب. أما فيما يتعلق بالشعر فيكاد الجهل به أن يكون تامّاّ.
س: من وجهة نظرك النقدية، أين يقف الشعر العراقيّ الآن بعد فورته مع جيل الرواد المؤسسين، وانفجاره الهائل مع جيل الستينات المتعدّد والمثير للجدل؟ هل لا زال يشكّل مصدر إلهام للحركة الشعرية العربية؟ وهل هناك متابعة نقديّة رصينة لمجمل مجرياته في الداخل والمَهاجر؟
ــ المشهد الشعريّ العراقيّ الآن مليء بالشقوق والتشظيات، فهو يتناثر، جغرافياً، على مساحات كثيرة من العالم. كما أنه يتوزع على ولاءات وانتماءات متباينة، أفقدته ربما بعض تماسكه. لكنه مع ذلك ما يزال حافلاً بالجديد والحيويّ، على مستوى البنى والتصورات.
فيما يتعلق بالمتابعة النقدية، ما تزال قاصرة إلى حد كبير. وباستثناءات قليلة، فإن الكثير من المتابعات النقدية للشعر العراقيّ متعجلة ويحركها، في الغالب، ضرورات العمود الصحفيّ، كما أن حبر الناقد يبدو مشوباً بشبهة اللؤم حيناً، أو محكوماً بروح الشلليات والمجاملة في أحيان أخرى. منذ سنوات، وأنا لا أجد إلاّ المتابعات الصحفية التي قد لا ترتفع، أحياناً، إلى مستوى ما يكتب من شعر.
 
حـوار المغـرب والمشـرق
س: هل تعتقد أن هناك تجارب شعرية جديدة، وافدة من الأطراف، لا سيما من الخليج والمغرب، جدّدت في روح الشعرية العربية، وأعادت توزيع اللعبة من جديد؟
ــ في المشهد الشعري الإماراتي الحديث ثمّة أصوات مهمة، ربما كان حبيب الصائغ وظبية خميس أقدمها عمراً ، ويمكن إضافة أصوات أخرى أحدث تجربة منهما، مثل أحمد راشد ثاني، ميسون صقر، خلود المعلا، كريم معتوق، إبراهيم محمد إبراهيم، خالد بدر وآخرين…
والملاحظ أن الصوت النسويّ يشغل جزءاً مهمّاً من هذا المشهد الشعري في الامارات، لا سيما في كتابة  قصيدة النثر. ولا أبالغ حين أقول إن ما تكتبه ظبية خميس و ميسون صقر وخلود المعلا يأخذ مكانه بجدارة بين أفضل الأمثلة في مجال قصيدة النثر العربية.
أما بالنسبة للمغرب، فيعجبني في بعض الأصوات الجديدة عنايتها بالإيقاع. إن الإيقاع عند عبد اللطيف الوراري مثلاً ، يستند إلى درايةٍ ممتازةٍ بموسيقى الشعر، لا باعتبارها قالباً عروضياً جاهزاً ، بل باعتبارها خزيناً من الإمكانات، والتموُّجات الإيقاعية التي تضفي على القول الشعريّ ما يعمق مَدَياته الدلالية والجمالية  .
ويمكنني القول، أيضاً، إنّ هناك أصواتاً جديدة تُمثّل تجربةً مثيرةً للاهتمام في قصيدة النثر. ياسين عدنان، مثلاً، يكتب قصيدة النثر بلغةٍ جسديّةٍ حارة، وانفعالٍ بالغ الرشاقة.
س: في نظرك، من هي أهمّ أصوات الشعر المغربي من الجيلين، جيل الروّاد والجيل الجديد؟
ــ لا يزال بعض الشعراء المغاربة يحتلون حيّزاً واسعاً من ذاكرتي: محمد بنيس، ومحمد الأشعري، وأحمد المجاطي، وعبد الله راجع، محمد السرغيني، ومليكة العاصمي، ومحمد بنطلحة ووفاء العمراني  على سبيل المثال. ومن الأجيال الأحدث، التي لفتت انتباهي: صلاح بوسريف، عبــد اللطيف الــوراري، جمال الموساـوي، محمود عبد الغني، سعد سرحان ، محمد العناز، ياسين عدنان  وآخرون.
ــ هل تشعر أنّ هناك حواراً مغربيّاً – مشرقيّاً في الشعر والثقافة، جارياً رغم أحوال السياسة ومنغّصات العصر؟
ــ صِلاتُنا بالمغرب لا ينتظمها سياقٌ حيّ، على المستوى المؤسسي، أو المجتمعي؛ لا تنس منطق الجغرافية والصلة بالآخر الغربيّ، لكن هذه الصلات عميقةٌ وشديدة الجاذبية على المستوى الفرديّ، وفي تدفقٍ دائم النماء. للمغرب حصةٌ بالغة العذوبة والعمق في ذاكرة الكثيرين من المشارقة: أعني عذوبة البشر وعمق النظـر المعرفيّ. في المغرب عكوفٌ على المناهج الحديثة، أما في المشرق العربيّ فلا  يزال الشعر يمثل إنجازنا الأهــمّ.
س: إلى أيّ مدىً يُمْكن لبيوتات الشعر في بعض البلاد العربية، من مثل المغرب والإمارات العربية وتونس وفلسطين ومصر، أن تساهم في العمل على دعم هذا الحوار الثقافي، وفي تطوير الحركة الشعرية العربية المعاصرة، وإشاعتها عالميّاً، عبر النشر والترجمة والتوثيق؟
– يمكنها أن تـــؤدي دوراً نشطــاً في تعميق هــذا الحوار، لكن بعض هـــذه البيـوت الشعــرية مايزال اسمـاً براقــــاً دون تأثير شعــريّ حقيقيّ ..
ـ هل تحتفظ لك بذكريات في إحدى زياراتك السابقة للمغرب (شخصيات، أمكنة، فعاليات…)؟
ــ لي في المغرب الكثير من الذكريات، زرته مرات عديدة. محمد شكري، محمد زفزاف، محمد مفتاح، محمد بنيس وأحمد المديني. مدنه الجميلة نبيذ الذاكرة وجمرة الخيال: الدار البيضاء، طنجة، أغادير، فاس، مراكش. قرأت قصائدي في مراكش، بدعوةٍ من الشاعرة مليكة العاصمي،  قدّمني فيها الممثل الكبير محمد حسن الجندي. أمسيةٌ ما زلت أستذكر أجواءها بنشوةٍ خاصة. لقاءاتي في طنجة مع محمد شكري. وفي بيت محمد زفزاف، مع طفولته وسلاحفه الثلاث الصغيرة، في الدار البيضاء.
ـ ما هي الذكرى التي تُحبّ تجديدها إذا أُتيح لك زيارة المغرب ثانية؟
ــ لا تظنّني مُبالغاً حين أقول: أتمنى استعادة كل لحظة من ذلك الزمن المغربيّ المثير للقلب وللذاكرة. إنّها جزءٌ من زمنٍ حميمٍ لا ينسى.
س: ألا ترى معي أنّ مقالتك اللمّاحة “تأمُّلات في كتابة القصيدة” ـ التي نُدرجها كاملةً في ملحق الكتاب ـ تشبه، إلى حدٍّ ما، رسالة إلى شاعر ناشئ؟
– قد تكون كذلك. وإذا آمنا أنّ الشاعر طفولة دائمة، عصية على الكهولة أو الاكتمال، وأنّه خبرة تتوالى، وبدايات لا نهاية لها. إذا آمنا بذلك كله، فإن مقالتي هذه هي رسالة لكل شاعر حقيقيّ ، بغض النظر عن عمره، أو مكانه..