رسول الجمال و المخيلة 2014 

د. محمـد صـابر عبيـد

الكاميرا  الشعرية

يعمل اشتغال الكاميرا الشعرية على نقل القصيدة من مساحة الكلام اللفظيّ إلى مساحة الشاشة المرئية، ومن التلقي الذهنيّ المتخيّل إلى التلقي البصريّ المرئيّ، وبذلك تذهب القصيدة نحو استثمار طاقات السينما وآليّاتها وصولاً إلى ما اصطلحنا عليه بـ ((القصيدة المفلمنة))، تلك القصيدة التي تستعير تقانات الفنّ السينمائيّ وآليّاته، ولاسيما ـ المونتاج والمشهد واللقطة وأسلوب العرض الصوريّ.
والشاعر علي جعفر العلّاق مصوّر باهر لا يكتفي بالتقاط الصورة من الحياة أو الطبيعة أو المخيّلة، بل يُعبّئها بالمزيد من الرؤى الشعرية كي تكون جديرة بالمثول في حضرة الشعر العظيم، فكاميرته الشعريّة لا تتوقّف عن الرصد والتسجيل والتصوير والالتقاط والتمثيل في جهات الأرض كلّها
فهو شاعر مهموم بالتشكيل في منظوره الجماليّ والثقافيّ على نحو عميق وأصيل وحيويّ، ولعلّ من أبرز مظاهر هذا الهمّ عنده هو الاهتمام والعناية بالصورة وطريقة التقاطها ورسمها وبنائها المعِماريّ، ، فتتجاوز دورها الإبلاغي المعروف في تراثنا الشعريّ والقائم على السماع والإصغاء والتأمل إلى الدور الفرجويّ المُشاهَد، حين يحرّض النصُّ القارئَ على تشكيل الصورة الشعرية بصريّاً والتعامل مع النصّ بوصفه شاشة عرض لمصوّرات شعرية أكثر منه رسالة لغوية تعبيرية لتوصيل الفكرة.
قصيدة (عكّاز في الريح) المهداة الى رشدي العامل، تتجّه كاميرا المصوِّر أولاً باتجاه الطبيعة بوصفها الظهير البانوراميّ للمشهد الشعريّ العام الذي تبنيه القصيدة، لتلتقط التقاطةً استثنائيةً لا يمكن أن ينجح في التقاطها إلّا مصوّر باهر تشتغل منذ عتبة عنوانها على حساسية التصوير الثابت المتحرّك، فدال (العكاز) دالّ ثابتٌ يخضع في صورة العنونة لحركة (الريح) المحتملة كي يخرج من الثبات إلى الحركة:
تتجّه كاميرا المصوِّر أولًا باتجاه الطبيعة بوصفها الظهير البانوراميّ للمشهد الشعريّ العام الذي تبنيه القصيدة، لتلتقط التقاطةً استثنائيةً لا يمكن أن ينجح في التقاطها إلّا مصوّر باهر وحاذق وخبير وحسّاس وشاعر:
يتكسّرُ في الريحِ لونُ الشجرْ،
إنّ صورة تكسّر لون الشجر في حركة الريح صورة نوعية فريدة ذات طبيعة لحظويّة، وهي تنهض على ضبط حركة الريح في مسارٍ تصويريّ محدّد كي تتمكّن عدسة الكاميرا من تصوير اللحظة الخاطفة التي يتموّج فيها لون الشجر متكسّراً على طبقات الريح، وهذه الاستثنائية في اللقطة الشعرية توحي بحساسية الجمال العفويّ الذي تصنعه الطبيعة، وهو ما يمكن أن يتعلّمه البشر على سبيل الاستمتاع والتجريب والإيمان بقوّة الطبيعة وسحرها، ولا شكّ في أنّ هذه البداية النوعية في حركة التشكيل التصويريّ تنبئ بحصول الطبيعة على قدرٍ كبيرٍ من اهتمام الكاميرا الشعرية وهي تمضي في تصوير الحراك البشريّ في القصيدة.
ثمّة لقطة ثانية موازية للّقطة الأولى لكنّ كاميرا المصوِّر تتّجه هذه المرّة إلى الداخل البشريّ لتصوّر الحراك الروحي الموازي للحراك الطبيعيّ:
يتكسّرُ في الروحِ مـاءٌ جميلٌ،
وتخضرُّ أسئلةٌ من حجـرْ..
يتحوّل التصوير من المجال الطبيعيّ الخارجيّ إلى المجال الإنسانيّ الداخليّ، وبهذا تحقق الكاميرا الشعرية قوّة نفاذها في الأشياء من دون التقيّد بالحواجز والمصدّات والمعيقات، فهي كاميرا شعرية لها القدرة على تصوير الواقعيّ المرئيّ المباشر، مثلما بوسعها تصوير الرمزيّ المتخيّل الخفيّ، فهي تلتقط هنا لحظة تكسّر الماء الجميل في الروح، مثلما يتكسّر لون الشجر في الريح، وعلى نحوٍ متوازٍ أيضاً، وإذا كان تكسّر لون الشجر في الريح لا ينتج سوى جمال الصورة وفرادتها، فإنّ تكسّر الماء الجميل في الروح ينتج صورة مُلحَقة هي ((وتخضرُّ/أسئلةٌ/من حجرْ..))، حيث ينفتح الحراك الشعريّ التصويريّ على حياة مغايرة تحوّل أسئلة الجماد المقفلة (حجر) إلى أسئلة مفتوحة على الخضرة والطبيعة، لتكون حبلى بالإجابات الخصبة الثرية المُنتِجة.
أمّا اللقطة الثالثة التي تشتغل في توازٍ ثلاثيّ مع اللقطتين السابقتين فإنّ كاميرا التصوير الشعريّ تتجّه نحو الزمن في مفصل طبيعيّ من مفاصله، لتلتقط عدسة الكاميرا زاوية تصويرية حادّة في لحظة خاصّة لا تتكرّر كثيراً:
يتكسّرُ في الليلِ أفقٌ جريحٌ
بعد هذا التصوير البانوراميّ للمحيط الشعريّ تشرع كاميرا المصوّر الشعريّ بالتوجّه نحو البؤرة الشعرية، وتتسلّط كاميرا التصوير على الموضوع بتجلياته الطبيعة والتاريخية والرؤيوية:
شاعرٌ يتقدّمُ أوجاعنا،
ضوءُ عكّـازهِ مهـرةٌ، وذراعــاهُ ليلٌ فسيحْ ..
تتّجه عدسة الكاميرا مباشرة إلى الصفة (شاعرٌ)، وهي تحيل على شاعر بعينه هو (رشدي العامل) بدلالة عتبة الإهداء، ثم تنحرف الكاميرا باتجاه تصوير حالة شعرية فضائية يكون هذا الشاعر فيها قائداً لرهط الشعراء في أوجاعهم، وتنتهي كاميرا التصوير إلى السؤال الشعريّ الاختتامي :
من سيجمعُ شملَ أشعّتهِ:
جسدٌ يابسٌ،أم ضريحْ؟
وتشتغل الكاميرا الشعرية في قصيدة (غيم) اشتغالاً إشارياً تحرّض فيه المتلقي على النظر إلى المشهد المصوّر:
ها هو الغيــم:
يجمعُ أطرافَهُ، يتراكمُ مكتئباً،
ساحباً خلفَ عَ رَ ب ا تِ المطـرْ..
فتشـمُّ الطيورُ تأوّهَـهُ،
ويشـمُّ صداهُ الشجـرْ …
ّ تشرع الكاميرا بتصوير المشهد الغيميّ التشخيصيّ المؤنسن وهو يؤلّف صورته الطبيعية التي تلتقطها عين الكاميرا بدقة ومعرفة وحساسية شعرية عالية (يجمعُ أطرافَه،/يتراكمُ مكتئباً،/ساحباً/خلفَه/عَ/رَ/ب/ا/تِ المطرْ)، إذ يتحوّل الغيم إلى شيخ حكيم مهموم بتوزيع بضاعته المجانية من المطر بلا حساب، وتتمتّع الصورة بأعلى درجات الاختزال والتكثيف (النحتيّ) حيث تعمل الكاميرا الشعرية عمل النحّات في ضبط حدود الصورة إلى أقصى حدّ ممكن .
لذا فإنّ الكاميرا الشعرية تنتقل إلى مشهد مقارِب لهذا المشهد المركزيّ فتصوّر أولاً استجابة الطيور للفاعل الصوريّ المركزيّ (الغيم) وتكون استجابة الطيور استجابة شميّة للصوت (فتشمُّ الطيورُ/تأوّهَهُ،)، وتصوّر ثانياً استجابة الشجر الشميّة لصدى الصوت (ويشمُّ صداهُ/الشجرْ …)، لتبلغ عين الكاميرا أدقّ مرحلة من مراحل طاقتها التصويرية حين تلتقط حركة الحواس داخل جوهر الصورة الأصل.
أما في قصيدة (شجرة) يشتغل الشاعر على استحداث سياق تصويريّ آخر، تتدخّل فيه شخصية مضافة إلى دراما الحدث الشعريّ في المشهد التصويريّ:
سقطتْ فجأةً شجرةْ ..
ارتطمتْ بالهواءْ جرحتْ ظلّها مرّتينْ ..
غطّتِ امرأةٌ بحفيفِ أنوثتها جسدَ الشجـرةْ ..
ودنا الحقلُ من لهفةِ القبّـرةْ
فاتحاً ليديها اليدينْ:
أهذا شذا التوتِ أم أنّ هذا دمُ العاشقينْ ..؟
اللقطة الأولى لقطة طبيعية تنشغل بالمظهر الخارجيّ المرئيّ (سقطتْ/فجأةً/شجرةْ). لكنّ اللقطة الثانية الطالعة من رحمِ اللقطة الأولى (جرحتْ ظلّها/مرّتينْ ..) تؤنسن الشجرة وتؤنسن ظلّها دفعة واحدة، وتستخدم الفعل (جرحت) من أجل تكبير صورة السقوط والارتطام بالهواء، فنقلت الصورة من سياقها الطبيعيّ التقليديّ إلى سياقها المتخيّل المنزاح نحو أفق صوريّ جديد، غير أنّ الشخصية التي ما تلبث أن تدخل ميدان الحدث الشعريّ وتلتقطها عين الكاميرا الشعرية عن كثب، تسهم إسهاماً فاعلاً في تنوير الصورة الشعرية المُلتقَطة (غطّتِ امرأةٌ بحفيفِ أنوثتها/جسدَ الشجرةْ ..)، إذ تتجلّى الصورة بحسّ إيروتيكيّ متجلٍّ ومتمظهرٍ ومحفوف بالجمال والرومانسية والرعاية العاطفية والأمومية، تصنعه شبكة الدوال (امرأة/حفيف/أنوثتها/جسد/الشجرة)، فكلّ دوال الصورة بحراكها التشكيليّ السينمائيّ اللافت إخراجياً تنفتح على أقصى حساسيتها التصويرية لتجعل من الـ(شجرة) بقامتها وهيبتها وأنوثتها المركز الصوريّ الأساس لحركة الكاميرا.
تتوازى معها صورة أخرى لا تخلو من حساسية إيروتيكية تصنعها شخصيات شعرية أخرى مؤنسنة ومشخصنة (ودنا الحقلُ من لهفةِ/القبّرةْ/فاتحاً ليديها اليدينْ:)، فالحقل المذكّر بدنوّه المقصود من القبّرة الأنثى وهي تتمظهر بلهفتها نحو دنوّ الحقل منها، يعبّر عن نيّته الإيروتيكية في حراكه الحسيّ (فاتحاً ليديها اليدينْ:)، وهو يختتم الصورة بتساؤل استفهاميّ ينشطر على شطرين (ـ أهذا شذا التوتِ/أم أنّ هذا دمُ العاشقينْ ..؟)، على النحو الذي يتداخل فيه المعطى الصوريّ تحت ضغط تسلّط عين الكاميرا بين البُعد الشمّيّ (شذا التوت) والبُعد البصريّ (دم العاشقين) في تشكيل صوريّ ملتحم، يجعل من (شجرة) النكرة في عتبة العنوان معرفةً في متن القصيدة تلتقطها عين الكاميرا من الخارج والداخل في آن.
تتألّق عين الكاميرا في قصيدة (قطرة ضوء) حين ترصد الموضوع الشعريّ الصوريّ المعلّق في عتبة العنوان داخل أقلّ حيّز زمكانيّ ممكن، فـ(قطرة ضوء) يصعُب التقاطها إلّا بكاميرا شعرية ذات كفاءة عالية لأنّها سرعان ما تغيب وينفرط محتواها الصوريّ ويتلاشى، لذا تشتغل عين الكاميرا هنا بأقصى طاقتها الإنتاجية ساعية إلى ضبط اللقطة الصورية وهي تتجلّى في المتن الشعري في القصيدة على أنحاء مختلفة:
ثوبُها لم يزلْ دافئاً فوق مشجبهِ ..
وعلى الأفقِ ثــمّ مساءٌ مطيرْ ..
قطرةُ الضوءِ دافئةٌ بين غصنينِ
والنسرُ يرقبها، عائداً من صحاراهُ ..
كان يجفّفُ ذاكرةَ الريشِ من تعبٍ ..
من بقايا نهارٍ كسيرْ ..
يكمنُ الضوءُ في برعــمٍ هائجٍ ..
وعلى مخلبِ النسرِ يلتمع الجـوعُ عريانَ ..
يرقبها، قطرةَ الضوءِ، هائجةً:
أيُّ عُـريِ وفيـرْ ..
أيّ ضوءٍ سيندلعُ الآن ما بين غصنـينِ:
هـذا هو الليلُ نديانُ ملءَ الحديقةِ ..
هـذا هو النوم يلهثُ عريانَ ملء السريرْ ..
عين الكاميرا ترصد الحراك الصوريّ في المتن الشعريّ داخل مستويين: على النحو الآتي: الصورة الأولى (ثوبُها/لم يزلْ دافئاً/فوق مشجبهِ ..) ترصد غلاف قطرة الضوء بكلّ ما يحويه من دلالة أنثوية (ثوبها) ذات معنى إيروتيكيّ (دافئاً) معلّق بانتظار الفعل القادم (فوق مشجبهِ)، تعقبها صورة أخرى خارجية منفتحة على الطبيعة (وعلى الأفقِ ثمّ/مساءٌ مطيرْ..)، ومن ثمّ ليسهل على عين الكاميرا رصد قطرة الضوء الدافئة بين الصورتين (قطرةُ الضوءِ دافئةٌ/بين غصنينِ).
يدخل فاعل صوريّ جديد هو النسر (النسرُ يرقبها،/عائداً من صحاراهُ ../كان يجفّفُ ذاكرةَ الريشِ/من تعبٍ ../من بقايا نهارٍ/كسيرْ ..) بوصفه رائياً ومراقباً، يحاول الاستعانة بقطرة الضوء كي تلهمه القدرة على تجاوز أزمته والخروج من محنته وانكساره، إذ هي تمثّل مخلّصاً مجازياً لا يكتفي باستلهام معطياتها الصورية بل يسعى إلى الدخول معها في مقاربة صورية تجسّد عمق الرغبة في ولوجها وتفعيل ممكناتها الصورية (يكمنُ الضوءُ في برعمٍ/هائجٍ ../وعلى مخلبِ النسرِ ../يرقبها، قطرةَ الضوءِ، هائجةً:/أيُّ عُـريِ وفيرٍ ../أيّ ضوء: سيندلعُ الآن/ما بين غصنينِ:)، وصولاً إلى إتمام الحراك الصوريّ الداخليّ للمشهد، ومن ثمّ التطلّع مرّة أخرى إلى الخارج المحيط بغطائه الزمنيّ والمكانيّ، من أجل رصده هو يسدل الستار الدراميّ على خاتمة المشهد الصوريّ حيث تهدأ حركة الكاميرا الشعرية كثيراً (هذا هو الليلُ نديانُ/ملءَ الحديقةِ ../هذا هو النوم يلهثُ عريانَ/ملء السريرْ ..)، لتغمر الصورة الكلية دوالٌّ فضائية منتخبة (الليل/الحديقة/النوم/السرير) توازيها دوالٌّ مصاحبة (نديان/ملءَ/يلهث/عريان)، يوظفها علي جعفر العــلاق لنسج خاتمة صورية تجعل من صورة (قطرة ضوء) المعلّقة في عتبة العنوان فضاءً صورياً واسعاً وعميقاً، تحرّض عين الكاميرا على تسجيل أعلى كفاءة تصوير ممكنة للموضوع الشعريّ.