شعرية الذكرى 2008 

تجربة عليّ جعفر العـلاّق

القصيدة ضرباً من اللعب الجاد

مصطفى الكيلاني

إنّ القصيدة في المعلن والخفيّ من الكتابة، هي الإمكان الوحيد المُتبقّى لمُغالبة النُقصان والسأم والحزن والانتظار والهزيمَة والانكسار، وهي أيضا لغة الأصل القادرة على تبديد رتابة اللّغة المُتداوَلة وانحباسها في دائرة العادة والتكرار، وهي تُمثّل، منذ البدايات الأولى، الرحم أو الولادة المجازيّة الثانية للشاعر، إذ أمكن للذات أن تُحقّق بعضا من الامتلاء في مغالبة الخواء والعبث واللاّ ـ معنى.
وبالقصيدة استحال الوجود إلى مصير قادر على إخصاب معنى، إذ بانفتاحها على جديد الشعر ومُمْكِنه وتكرار الفعل الكِتابيّ، كالّذي تجسّد في عَدَدٍ من الدواوين، تتأكّد صفة المصير الذي يتحقق بحاضر الماضي وتوهُّجه وتعدُّده وتجدُّده. إنه وعي اللحظة الراهنة، مرايا تُفضي إلى مرايا، بحركة شبه دورانيّةً في الداخل: يتّسع مداها ليضيق ويضيق ليتّسع دون حُدود نهائيّة سواء كان ذلك في اتّجاه الداخل أو الخارج، ضمن تواشُجات استعاريّة تُحوّل الداخل إلى خارج والخارج إلى داخل، والماضي إلى مستقبل والمستقبل إلى راهن.
لقد أدرك العـلاّق بحَدْسه الشعريّ المُدهش حقّا أنّ العمل الفنّيّ، والقصيدة منه على وجه الخصوص، هو ضرب من “اللّعب الجادّ” قريبًا في هذا المنظور من هانس جورج غادامير ( (H. G. Gadamer(1)، لعب لا يخلو من لذّة وحِسّ تراجيديّ، بل إنّ بهجته تكمن أساسا ومرجعا في بُعده المأتميّ. وما الحزن المتكرّر والمستعاد في مُجمل دواوين العـلاّق إلاّ ثمرة مأساة دمويّة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ الوطنيّ والقوميّ، حيث الدّم ورمزيّة “الورد” و”الرماد” و الدموع والعويل والاستشهاد…
ولئن اختلفت النبرة في أداء الصوت الشعريّ حسب المراحل الشعرية المختلفة، فإنّ المُشترَك بين هذه المراحل ماثل في أداء المعنى التراجيديّ، الّذي يتعاظم نداؤه في اللاّحق ليُقارب دلالة الهلاك وينأى بعض الشيْء عن دلالة الموت اختلافًا عن الوعي التراجيديّ الماثل في السابق. فما بدا في ماضي التجربة الشعريّة تلهّيًا عن المأساة بوليمة الحياة تُؤَدَّى عبر وليمة الجسد، ينقطع، تقريبا، منذ خوْض تجربة السفر بعيدًا عن الوطن، كأن تنشأ كتابة المراثي، ويتّسع مداها ويعمق بـ”مراثي مُسْتَقبليّة” دون فقدان الأمل تمامًا، بَلْ إنّ طيف الأمل يعبر البقاع الخلفيّة لموصوف الحالات والمواقف والمشاهد… وكأنّ العـلاّق يشقى بالشعر قَدْر سعادته به، ليُتاخم، عند ممارسة كتابته، أقصى حالات الرغبة حيث الموت المتربّص بالذات، شأن الهلاك المُسْتبِدّ برمْزيّة الكائن والمكان والكيان أو الوجود. لذلك نراه يلوذ بالشعر من الشعر، وبالنقد من الشعر، وبالكتابة منه الّتي هي أشبه ما تكون بالسيرة الذاتيّة، أو الاعتراف كي يعود في الأثناء إلى الشعر عند حديثه عن الشعراء وأصداء أسمائهم وأقوالهم ومواقفهم في الذات الكاتبة.
ولعلّ السرّ الكامن في ثراء تجربة العـلاّق الشعريّة يكمن في مدى إدراكه المُعْلَن أو الضمنيّ، وعْيا أو دون وعي، لضرورة تغليب الموت على الهلاك (2) بمعنى رغبة الإفناء الذاتيّ للكيان الفرديّ، عند أداء الفعل الإبداعيّ شعرا و وُجودًا، على التسليم بالحقيقة الأزليّة المستعادة والمخصوصة بتاريخ الجريمة الواحدة، رغم اختلاف وُجوه القتَلة وتغايُر الآثام الّذي هو الهلاك والإهلاك.
وما حدث في “ممالك ضائعة” و “سيّد الوحشتين” أنهما تشيان أحياناً بحالٍ من التساوي الإشكاليّ بين وعي كلّ من الموت والهلاك. وقد لا نُبالغ إن شملنا بهذا التأويل القِرائيّ شعراء عراقيّين آخرين مِمَن تفاعلوا مع كارثة الاحتلال الأخيرة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر حميد سعيد وسامي مهدي(3).
لقد تعلّمنا من سورن كيركغارد ( Sœrn Kierkegaard) أنّ اليأس هو الّذي يُخصب الأمل حتما، ولا معنى ليأس دون أمل، أو أمل ينشأ خارج دائرة اليأس (4). كما أمكن لنا إدراك الحقيقة الّتي تفيد أنّ وعي الوجود مُتولّد من رحم المأساة (5)، وأنّ الوجود الأنْبل والأخصب هو الأقدر على إنشاء المآسي، وشأن المآسي أن الوجود لا يتحرر من جاهزيّة معناه، ولا ينهض إلى أعالي القيمة إلاّ بها.
وقد تعلّمنا أيضا من تجربة عليّ جعفر العـلاّق، في الكتابة والوجود، دليلا آخر على أنّ الريادة العراقيّة للشعر العربيّ منذ بدر شاكر السيّاب إلى اليوم ليست حُكْمُا عارضا، أو انتصارًا لنجوميّة شاعر على نجوميّةٍ مزعومة أخرى، أو لانتماء قُطريّ بعيْنه أو لفريق أو قبيل، بما يُذكي عنجهيّات قديمة، بل إنّ هذه الريادة تعود في الأساس إلى هذه الحضارة الرافدينية النبيلة المعذبة، وإلى توتر الكائن العراقيّ وثراء مخيلته وعُمْق تجربته الجماليّة والوُجوديّة ومغالبته للمستحيل.
وإنّ القصد من انتهاجنا سبيل التأويليّة (herméneutique)، كمتعدّد قراءاتنا السابقة، هو الحرص على تحاشي الوصفيّة الباهتة الّتي تكتفي عَادَةً بتفكيك الأساليب وتغليب وظيفة الهامش على المتن، والأسلوب على المعنى، واللّغة على ما وراء اللّغة، وإعدام روح النصّ بمُسبق المفاهيم وثابت “الحقائق” تبعا لمقولات نقديّة تُجتثّ في الغالب من سياقاتها الحيّة لتستحيل إلى أدوات لاختزال الأساليب وتدجين المعاني.
إنّ ما أنتجه العـلاّق هو بعض قليل من مشروع الكتابة الّذي التزم به لَعِبًا عَاشقًا جادًّا حدّ المأساة، وهو البعض الكثير الذي دفعنا إلى، انتهاج المُقاربة التأويليّة، إذْ يُؤكّد نصّ العـلاّق الشعريّ والنقديّ أنّ الفنّ أرفع من أنْ يُحدّ بمَرتبة، كالّذي أقرّه أدرنو ( T. W. Adorno) عند القول بأنّ الفنّ هو الفنّ الراقي، ولا معنى للأقلّ أو الأكثر رُقيّا (6)، بل هو الّذي يُقدَّر بمدى انفتاحه على الذات / الذوات المتقبّلة والمتذوّقة المتأوّلة المُقتدرة على تحقيق لحظة استمتاع وتقدير جماليّ.
ولئن جمع عليّ جعفر العـلاّق بين الشعر والنقد فهو الشاعر بدْءًا ومرجعا، إذْ أدرك أنّ الشعر نقديّ في الأساس، والشاعر ناقد يرفض احتراف النقد، بل يعتبره جزءًا من ذات النصّ الشعريّ وبعضا من آليّات تَمَثُّله وفهمه، فلا تثنية في مشروع الكتابة لدى العـلاّق، ولا ازدواج في شخصيّة الشاعر (7).
الهوامـش:
1-  -Hans Georg Gadamer، « Vérité et méthode، les grandes lignes d’une herméneutique philosophique »، Seuil، 1976، p30.
2-Gallimard، 1973، p163. – Maurice Blanchot، « L’espace littéraire »،
3- آنظر “من وردة الكتابة إلى غابة الرماد” لـ حميد سعيد، الأردنّ: دار أزمنة، ط1، 2005.  و”مدوّنات هابيل
بن هابيل، ” دار أزمنة، ط1، 2006.
4-  -Sœrn Kierkegaard، « traité du déspoir »، Gallimard،1949،p 65-66.
5- -F. Nietzsche، « La naissance de la tragédie »،Gallimard، 1949، p 21-22
6-  -T. W. Adorno، « Théorie esthétique »، Klinck sieck،1982، p250
7- “أعتقد أنّ الشاعر عليّ جعفر العـلاّق ليس بحاجة إلى التعريف، و مع ذلك لابأس من الإشارة إلى أنّه إضافة إلى كونه شاعِرًا كبيرًا فهو ناقد مُهمّ،  و لعلّه من بين أهمّ الشعراء العرب المُعَاصرين الّذين أقنعوني بأنّ الشاعر لا مفرّ له من أن يكون ناقدًا”.
د. عبد العزيز المقالح، ” عليّ جعفر العـلاّق شاعر زمن الوحشة”، صحيفة “الحياة” بتاريخ 25/11/ 2006.