أنا الأغنية، أنا الرّيح.. وماذا بعد؟ 

حاوره: عـبداللطـيف الـوراري ..
بدايات الوعي، الذاتية ومصادر النّبْع
س: دعني أسألك هذا السؤال الموجع: ما الذي جاء بك إلى هذا الوديعة الغامضة التي تُسمّى الشعر؟
ـ يبدو أن الطفل، في الريف، يولد على مقربة من الشعر، أكثر من طفل ألمدينة. لقد وجدت نفسي في قرية مائية بامتياز، تتجاور فيها المتناقضات إلى أقصى حدّ: الطين والضوء، الفقر والغنى، الموت والماء. كنا نجلس إلى هذه المتناقضات جنباً إلى جنب، نصحبها إلى النوم، ونشمّها في غناء الأمهات. كان كل شيئ في تلك القرية البعيدة يحرضني على البوح: غناء الفلاحين في مواسم الحصاد الصافية كالذهب، احتفاؤهم بالموت أو إقبالهم على الحياة، سهرهم الطويل وهم يرافقون الأنهار في تجوالها الليلي، يفتحون جرحاً مائياً هنا، أو يلحمون جرحاً مائياً هناك. كان كل شئ حولي يغنّي أو يبكى، يشكو أو يتأوه. كل شيء تماماً: الريح والنباتات، الطيور والناس، الخيول والمطر.
س: عندما كنتَ تشبُّ شيئاً فشيئاً، وتنتزع نفسك من طبع البادية وغنائها إلى ثقافة الصفّ الدراسي، متى راودك حلم أن تكون شاعراً؟
ــ حدث، وأنا في الصفّ الثالث، أنّنا كنا نصطف في الصباح الباكر ويخرج أحد التلاميذ من الصفوف المتقدمة ليقرأ علينا قصيدة محددة. في أحد الصباحات قرأ أحد الطلبة قصيدة عنوانها “الربيع”، وما زلت أذكر اسم شاعرها “خطاب سلمان العبيدي”. كانت مفاجأة صارخة لي حين علمت من همس التلاميذ أنها من شعر أحد معلمي المدرسة، وكان حاضراً في الساحة حينئذ. انتابني شعور غريب، كيف تسنّى لهذا الرجل، وهو من لحم ودم مثلنا، أن يكتب كلاماً كهذا؟ أيكون الشعر كلام إنسان عادي يشبه الآخرين؟ هل الشاعر يشبه أي إنسان آخر سواه؟ كنت أعتقد أن الشاعر كائن أثيري، لا يمكن لمسه، أو محادثته. لذلك بقيت أنظر إلى ذلك المعلم مشدوهاً أتجاوز ملامحه المادية المحسوسة. آنذاك فقط أحسست بحلم صغير يراودني: أن أكون شاعراً، وربما حلمت أيضاً أن يقرأ الطلبة، ذات يوم بارد، إحدى قصائدي في اصطفافهم الصباحي.
لم أفهم الكثير من قصيدة الأستاذ خطاب العبيدي، ملك الاصطفاف في تلك اللحظة؛ فقد هيمنت عليّ فجأة دهشة غامرة اقتلعتني من بين الأجساد المتراصة وكأن هواء كونيّاً أذابني في ثناياه ونثرني بين غباره وطيوره وأحجار طرقاته. كان شيء ما، عصيّ على التحديد: غيمة، أو أغنية، أو طائر خرافي يمسك بي من قلبي المنتفض، ويحلق عالياً لأطل على ذلك العالم من شرفة نائية كالأساطير لا يطالها البشر ولا تحيط بها عيونهم .قبل تلك اللحظة ما كنت أصدق أن في الإمكان أن أرى بعينيّ هاتين شاعراً من لحم ودم، يتمشى خارج مخيلتي، أعني على الأرض وبين الناس؛ لأنني لم أكن أعتقد أن الشعر يمكن أن يكتبه بشر عاديون، كنت أظنه كلاماً أثيرياً أو نعمة من نعم الخيال، كلاماً مُصفّى لم يمسسه بشر من قبل، يهطل علينا فجأة وكأنه يتطاير من تصادم غيمتين طريتين. إنّه أجمل وأرقى من أن يدعيه إنسان بذاته، إنسان مثلنا، يأكل ويشرب، ويتثاءب ويغتاب الآخري؛ فالقصيدة تشرق من شفتين غائمتين بالبهجة أو الأسى، أما الشتيمة فلا تخرج إلا من كهف أو كمين أو هاوية .وطوال ذلك الطابور الصباحي وأنا غائب عن نفسي، أحسست أن فضاء المدرسة كله كان مفعماً برائحة خاصة: أشرعة تمتلىء بالريح، وحقول تغسلها أمطار الليل، وغدران تحف بها الطيور الفرحة من كل صوب. وكان لي، وسط ذلك كله، طيوري الخاصة أيضاً؛ لقد كنت أتمنى أن أرى نفسي ذا يوم محوراً لمشهد صباحي كهذا، حيث رائحة الصباح تملأ روحي وأنا أخطو بين التلاميذ مزهواً لا بعصاي بل بقصيدتي.. كم طويل هو الزمن الذي لا يزال ممتدّاً بين ذلك الصباح الخريفي، وهذه اللحظة الملتهبة بالذكريات.. نهر من العشب والانفعالات والرذاذ يمتدّ بين خريفين: بين قلب كان عامراً بالجمر والأسئلة، وقلب أخذ يعلوه الشيب؛ ومع ذلك، فلا يزال ذلك السؤال القديم يتجدد كل لحظة: ما الشعر؟
س: توجّهت في بدايات مسار كتابتك الشعرية إلى الشعر الشعبي. هل كان يعني ذلك حضوراً طاغياً لهذا النوع الشعري في بيئتك، بقدرما يعود إلى اهتمامك بالفلكلور الشعبي وتأثُّر ذائقتك بالمغنّين والشعراء الشعبيين، بمن فيهم مظفر النواب؟
ــ لقد حملت من قريتي الجنوبية الصغيرة، وأنا في طريقي الى بغداد، أمشاجاً من تأثيرات كثيرة، عادات، وشعائر، وأنماطاً من السلوك الوجـداني  والانفعـالي. وربما كان الشعر الشعبي، أو القصيدة العامية هي أحد تلك الانماط.
كانت تلك القرية، كأية قرية عراقية، تموج حد التوتر بكل ما يثري النفس، ويغذيها بحس الفجيعة أو فورة الفرح، وتلقائية التعبير ولوعته. وما تزال ذاكرتي تضجّ بتلك الانفعالات المنفلتة من عقالها، أيام الأعياد، أو مآسي التاريخ، والمناسبات الاجتماعية، وتقلبات الفصول والمواسـم كالحصاد، والتنادي لدرء الفيضانات، أو استعراضات القوة أو التلاحـم من خلال التجمعات القبلية.
هذه الفعاليات الكثيرة، والتي كنت أحضرها بصحبة والدي غالباً، لا يتم التعبير عنها أو تجسيدها، بغزارة استثنائية جارفة، إلاّ عبر الصوت، والكلمة، والإيقاع.
لقد كان الصوت، الذي هو صميم تلك الفعاليات وخيطها الموصل إلى الروح، يأخذني إلى أقصى مديات الانفعال ممثلاً بالأهزوجة المرتجلة، هلاهل النسـاء، المغنين الريفيـين، الأغاني الغجريـة، نايات القصب النائحـة، إطلاق النار في الأعـراس والمآتـم والأعيـاد.
وكان للكلمة حضورها الملهب للوجدان أيضاً، أعني القصيدة الشعبية، بإيقاعاتها العديدة، كالموال أو الزهيري، والأبوذية. وكانت الحركة التي ترافق هـذه الفعاليات جميعاً: رقصات الغجر الضاجة بتشهيات الجسد ونداءاته، وقـع الأقـدام المنفعلـة في دبكات الجوبي، اندفاع الأجسـاد وتراجعها وسط الغبار وحركة الريح.
ولا أنسى أبداً ما تتركه الأهزوجة الشعبية من انفعـال رجولي فـذّ، في حركـة الهازجين ووجـدانهـم، وهم يجسدون تلك اللحظات العامرة بالزهو والتباهي.
كان هـذا المزيج الحميم أو الجارح، من الإيقاعية والكلمـة والحركـة، يأخـذ طريقـه ليذوب في أعماق ذلك الطفل الذي كنته آنذاك، وينسرب إلى ذاكرته ومخيّلته اللتين ظلّتا فياضتين بالحنين واللوعة والغرابة.
س: هل يمكن القول إنّ الثراء الإيقاعي الذي نكتشفه في شعرك دائماً، يعود إلى هذا المصدر بالذّات؟
ــ إلى حدٍّ كبير. وكأنني خرجت من قريتي، في لواء الكوت، بذاكرة منقوعة بالإيقـاع ومخيلة قابلة  للاشتعال في أية لحظة. ولابد لي من القول إنني كنت، إلى هـذا الحـدّ أو ذاك، على صلة بمقطوعات، وأبيات من الشعر الفصيح أيضاً. لقـد كان والدي، وهـذه إحدى مفارقات طفولتي كما قلت سابقاً، يعرف القراءة والكتابة. مفارقة قد تبدو عصية على التصديق في ذلك الوقت.
س: إذاً، بدأت شاعراً يكتب بالعامية، قبل أن تتحوّل إلى الكتابة بالفصحى.. ما الذي بقي من شعر العامة في قصائدك الفصيحة؟
ـ كانت المفردة العامية بداية اللعبة، لعبتي مع اللغة أو لعبتي مع الشعر، لكنها لم تدم طويلاً، ثلاث سنوات أو أقل، بين الخامس الابتدائي والسنة الأولى من المرحلة المتوسطة. وكان الشاعران مظفر النواب وزاهد محمد أهمّ شهود تلك البدايات المبكرة. إنها الملامسة الحسية الأولى مع هذا العالم الذي يطفح بالسحر والإيقاع والغموض. لقد زودت هذه التجربة قصائدي اللاحقة بمجسّات إضافية، أتشمم من خلالها لوعة التراب وغيوم الذاكرة، كما أنها جنبت قصائدي الانحدار إلى لغة التجريد أو الصياغات الملساء حيث لا ظل ولا جمر ولا انحناءات روحية ملتاعة.
لم أواصل طريقي في كتابة الشعر الشعبي إلا أن ذاتي الشاعرة ما زالت مليئة بهذا الهاجس الوجداني الحميم الذي أظنّ أنه يبعد قصيدتي عن التجريد، ويبعدها كذلك عن التهاويم التي تشكل ملامح قصائد عدد كبير من الشعراء التي هي أقرب ما تكون إلى مجال التمارين الشعرية الذهنية، والتي تجعل القصيدة الحالية خالية من أي خيال حقيقي؛ تقرأ القصيدة الآن من أولها إلى آخرها فتجدها وللأسف الشديد جافة، عابسة، لا تند منها آهة، ولا تستشعر منها نقطة بلل حقيقي. هذا هو فارق الإطار الذي يحضرني في هذه اللحظة.
س: هل تتذكّر قصيدتك الأولى؟ علاقتك بها في الاشتباك الأوّل بين جسدك وروحك، بين اكتظاظك بالمعاني والأهواء، وعجزك عن البوح بها؟
ــ لا أظنّ أنّ أحداً منّا يعرف قصيدته الأولى تماماً. لكنّه يتذكّرها غائمة تارةً، وملتاعة تارة أخرى: تعطّر ذاكرته، وتوقظ في جسده نكهة غريبة تشبه، إلى حدّ كبير، رائحة مرعى مغسول، أو امرأة تسلم جسدها لأمطار النوم. رائحة ليس من السهل تحديدها، لكنّها تقع، هناك، في منطقة ما بين المخيّلة والذاكرة.
هل يمكن لنا أن نكفّ، ذات يوم، عن تذكّر تلك القصيدة التي أشاعت فينا، لأوّل مرة، هزّة داخليّة سال لها عرق قلوبنا وارتعدت أوصالنا من هول لذتها الغامضة؟ كيف يمكن للنسيان أن يقف بيننا وبين تلك الذكرى البعيدة المنعشة؟ إنّها موعدنا الأوّل مع اللغة وليل الانفعالات. وهي قدرنا المحتوم الذي قادنا، صدفة، ربّما، إلى حافّة تلك البئر الفوّاحة بالظلام الصافي وكواكب الياقوت المتأجّجة. في فترة ما من أعمارنا، تتفتّح حواسّنا على الحياة فجأة. ندرك حينها أنّنا ننزلق، مسرعين، إلى حافّة بئر مغرية لا قرار لها. في فترة كهذه نحسّ بأنّ أجسادنا تقتادنا إلى جنونها الخاص، ذلك الجنون الحسيّ العارم الذي لا لؤم فيه. وهكذا ترتطم حوّاسنا ببعضها بعضاً، وتستيقظ قطعاننا مغتلمةً هائجة، ويتعالى نداء المراعي.
وخلال هذا الدويّ الداخلي، تصطرع الحواسّ، وتتصادم مزبدة محتدمة. إنها يقظة الجسد، وهي استجابته الفظّة لنداءات مضبّبة تندلع من الجهات كلّها. وهي – أيضاً– الإصغاء لرعد الروح وهو يتكسّر في أجسادنا، ولأمطارنا المربكة وهي تتجمّع، هناك في قرارة البئر، لتندفع إلى الأعالي مثل ليلٍ كاسح .
أيّ جَيَشان محتدم هذا؟ لقد كانت حاجاتنا الأولى إلى التعبير ولذة البوح تزداد وعورة يوماً بعد آخر. وكعادة الكثيرين ممن تسكرهم أيّام الصبا وحماقاتها العذبة، اندفعتُ باحثاً عن نافذةٍ ما تنقذني من فوران الجسد وحيرة الروح. نافذة أهرب، من خلالها، ممّا أنا فيه من تخبّط الحواسّ، ونداءاتها العصيّة على الفهم أحياناً.
لم تكن قصائدنا الأولى قصائدنا الأولى حقّاً؛ إنّ هناك انكسارات كثيرة سبقتها ومهّدت الطريق لرعودها الجارحة: أشلاء من المعاني والانفعالات، مشاريع للبوح لم تكتمل، محاولات للاقتراب من الشرر أو الينابيع. وقبل الوصول إلى القصيدة  الأولى كان التخبّط يصل أقصاه: كان هناك رعدٌ خاص يجتاح تلك السيول المؤجلة، ويدفع بها إلى الجنون لتكتسح في طريقها كل شيء: الأحلام، والمعاني، ومفردات اللغة.
يُخيّل إليّ أنني، في بداياتي المبكرة، كنت أهرع من نافذة إلى أخرى ملوّحاً لأيّ شيءٍ عابر: غيمة كان أو جنازة أو امرأة، لألفت انتباه العالم كلّه إلى هذه المعركة المريرة التي لا يراها أحد سواي، إلى هذه الفوضى المحيّرة من المعاني، والانفعالات والكوابيس. وكم كان فرحي عظيماً حين كانت القصيدة العاميّة طريقي الأوّل إلى البوح المضني ذات يوم، لكنّني أحسست بعد فترة قصيرة أن ما بي كان أشد وعورة من أن تحتمله لهجتي العاميّة آنذاك. وهكذا كانت الريح تدفعني بعيداً: إلى الجانب الآخر من نهر اللغة تماماً.
س: هل تذكر أوّل قصيدة نُشِرت لك؟ كيف كان إحساسك وقتئذٍ؟
ــ ما زلت أذكر تلك اللحظة من ذلك اليوم الخريفيّ الخاص من عام 1964، حين وجدت قصيدتي منشورة في الصفحات الأولى من مجلة ( العاملون في النفط ). كانت أول قصيدة فيها، مع أن العدد نفسه كان يضمّ مجموعة من الشعراء الذين كان العمر الشعريّ لبعضهم يفوق عمري الزمني بكثير. حين بعثت بقصيدتي الأولى إلى تلك المجلّة، لم يكن يخطر ببالي أبداً أنها ستُنشر وبهذه السرعة أيضاً. كانت المجلّة – على خلاف اسمها تماماً– تفتح صفحاتها لشعراء الحداثة من الشباب وكان يشرف عليها مثقّف ومبدع لامع هو جبرا إبراهيم جبرا.
كانت حدثاً شعرياً هائلاً لا أنساه بالنسبة لي، كيف أن هذا الفتى الصغير راح يعبر الجسر بين الرصافة والكرخ بعد أن أخذ مجلة “العاملون في النفط” ليكتشف أن قصيدته هي الأولى في العدد ووراءه أسماء مكرسة ومعروفة مثل راضي مهدي السعيد، وإبراهيم الزبيدي، فواكبني إحساس شديد بالغرور؛ حتى إنني ظننت أنه ما من فتاة كانت تعبر في الشارع إلى جواري إلا والتفتت لتقول لنفسها هذا هو الشاعر علي جعفر العلاق، مع أن أحداً لم يكن قد قرأ المجلة بعد. أحسست في تلك اللحظة أن بغداد كلّها تتدافع من حولي لترى معي قصيدتي الأولى، مطبوعة على ذلك الورق الفاخر. بغداد كلّها: غيومها الرماديّة ونساؤها الجميلات، نخيلها العالي وأزقّتها المتربة. كنت أتخيّل أن الجميع يتأمّل عنوان قصيدتي (إلى صديقة مسافرة) وقد خُطّ باللون الأخضر. بينما خُطّ اسمي بلون جميل آخر، وكان كلاهما مكتوبين بخطّ الرقعة الجميل.
هذه هي مؤشرات البداية؛ لكنني أحب أن أشير إلى شيء، وهو أن مظفر النواب، وعكس ما هو متوقع، زرع فيّ فهماً للشعر جميلاً، فلم يكرسني للشعر الشعبي بل أخذني إلى الشعر الفصيح، فأثر فيّ تأثيراً كبيراً جداً.
ومع إن قصيدتي الأولى تلك كانت عموديّة إلا أنني كنت فيها كمن يحاول أن يشقّ مساراً لم تألفه لغة هذا النمط من القصائد ولا بناؤها البلاغي. كنت أحاول أن أدفع باللغة إلى أقصى حالات التطرّف حتى تفارق مرجعيّتها الواقعيّة أحياناً. وكانت القصيدة تحتشد، حدّ الالتباس ربما، بالصور المفعمة بالغرابة.
وكأيّ شابٍ يرى – لأول مرة – ثمرة صراعه مع لغته وأخيلته وعواطفه، كنت مرتبكاً حدّ الفرح. ومع ذلك – وفي الوقت ذاته تماماً – كنت أحسّ بالرهبة أيضاً: لأنّ سؤالاً جارحاً كان يكدّر عليّ فرحتي تلك: ماذا سأكتب بعد قصيدتي الأولى؟
س: نتعرّف ابتداءً من نصوصك الشعرية الأولي على وعي مبكّر لديك بالشعرية كخاصية مائزة في نسيج النص. ما هي قـراءاتك النظريـة والإبداعية الأولى التي شكّلت هذا الوعي وحفرته في رؤيتك إلى الشعر كجنس أدبي مختلف؟
– منذ طفولتي وأنا رهين إحساس غامض: أن أكون مختلفاً عن أقراني. لا أدري كيف تملّكني هذا النزوع. كان إحساساً أكثر منه وعياً. في البداية، أعني في الطفولة تحديداً، كان ميلاً إلى التمايز في السلوك، لا عن عجرفة أو مباهاة؛ فليس لديّ ما يدفعني إلى ذلك اللهـمّ إلا انتمـائي إلى عائلـة كانت  تحظى، رغـم فقرها النسبيّ، باحترام تلك القريـة الصغيرة. هذا الإحساس، الذي حدثتك عنه، تعرّض إلى تحوُّلٍ عميقٍ بعد هجرتنا من الريف إلى بغداد، حين بدأت البوادر الأولى لاهتماماتي الأدبية. لم تكن بغـداد بالنسبة لي آنذاك، إلاّ مدينة غريبة، متعجرفة، وغير متجانسة، ليس فيها مُتّسع كافٍ تترعرع فيه الدوافع الأولى للمباهاة التي ميّزت طفولتي هناك في القرية؛ فقـد توفي والدي، مصدر ذلك الاعتداد بالذات، وتمددت كتلة اليتم على حياتي كلّها. ويبدو أنني حوّلت مسعاي إلى التميز من بيئة الى أخرى: من السلوك الاجتماعيّ إلى القول الأدبيّ. جرّبت، في البداية، كتابة القصيدة العامية. وقد تعرفت، في تلك المرحلة، على أسماء معروفة في مجال القصيدة العامية مثل زاهد محمد، الذي أذاع لي قصيدة أو قصيدتين في برنامجه الإذاعيّ، مظفر النواب،  شاكر السماوي، عريان السيد خلف، ناظم السماوي، طارق ياسين، وآخرين..
لم أكتب، في مرحلتي تلك، غير قصائد معدودة لا تتجاوز أصابع اليـد الواحدة ربما. بعدها قررت ألاّ أطيل المكوث في هـذا الأفق العاميّ. أدركت أن هـذا الأفق ليس لي، ولن يكون فضائي الذي أجد نفسي فيه. هذا ما أدركته بسرعة، والمفارقة أن مظفر النواب، الذي تعرفت عليه في مرحلة الدراسة المتوسطة، لم يدفعني الى أفـق القصـيدة العامية. وعلى عكس ما كان متوقّعاً دفعني هذا الشاعر المجدد إلى أفق آخر ودون أن يدري ربما؛ فمن خلال قصائده العامية المدهشة وآرائـه في الحداثـة الشعريـة، كنت أجـد طريقي إلى ضفة شعرية مقابلـة: أعني كتابة القصيدة العربية. غادرت القصيدة العامية قبل أن أكتب بها شيئاً يعتد به، بضع قصائد لا أكثر، غير أنّ اهتمامي بها، وعلاقتي بشعرائها المتميزين، أو بمعظمهم على الأقل، ظلّ يرافقني حتى الآن.
لم تكن قراءاتي، في البداية، منتظمة أو متجانسة. كنت أقرأ ما يتيسّر لي الحصول عليه وبفوضى ذات دلالـة: من المياسة والمقـداد، إلى غريب كامو، ومن قصائد الحاج زاير إلى أدونيس. اندفاعةٌ شابّة ينقصها النضج والتوجيه، أو وعيٌ ما يزال باحثاً عن اكتماله الصعب، لكنـه كان يفيض عن حاجـة العمـر أحياناً، العمر الجسديّ أو المعرفيّ إن شئت .
في بداية الدراسة الثانوية، أخذت هذه القراءات في الانتظام والتجانس إلى حدّ ما ، لكنها ظلت دون انضباط منهجيّ أو تاريخيّ. كنت وكأنني أمسك بسلّم قراءاتي بطريقة معكوسة؛ فباستثناء محمد مهدي الجواهريّ ربما، لم ألتفت إلى شعراء الكلاسيكية الجديدة التفاتاً كافياً. لم أقرأ، قراءة معمقة، شعراء مثل معروف الرصافي، جميل صدقي الزهـاوي، محمد رضا الشبيبي، أمين نخلة، أحمـد شوقي إلاّ بعد انصرافي إلى تدريس الأدب الحديث في الجامعة.
جملة من الأسماء كان لقائي بها نقطة تحوُّل مهمة: ربما كان جبرا إبراهيم جبرا أكثر هذه الأسماء تأثيراً، وكان لقراءاتي في الرمزية الفرنسية وعنها أثر كبير على تجربتي وهي في بداياتها الصاعدة؛ فقد كانت هذه المدرسة، بوجهيها الفرنسيّ والعربيّ، أكثر المـدارس الشعريـة مغامرة في اللغـة والصورة. وكان لقصائد سعيد عقل وصلاح لبكي ونزار قباني، في تلك الفترة، جاذبيّة خاصة. علمتني الرمزية الكثير من رهافة الإصغاء إلى اللغة، والاحتفاء برنينها الثاقب، وحيويتها الفياضة: اللغـة، في حد ذاتها، ولاشيء غير اللغة.
وقد انعكس ذلك بشكل لافت حتى في قصائـد البدايات، التي كتبتها على النمط العمـوديّ، وربمـا حملت مجمـوعتي الشعريـة الأولى: “لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء”، عام 1973، الكثير من جماليّات تلك المرحلة. كانت  قصائدي، في هذا الديوان، صوراً عامرة بالمفاجآت والحيرة، دلالات تتوارى وراء دخان اللغة الذي كان يتصاعـد من كل مكان. مناخات لغوية ثرّة، تبدو أحياناً وكأنها مقصودة لذاتها.
وقد تفاوتت ردود الأفعال، على هذا الديوان إلى حدود بعيدة. بين نقـد حداثيّ، متفتح، احتفى بها احتفاء خاصّاً، محمد شكري مثلاً. كان يرى في قصائـدي جِـدّة صادمـة، وبـين عـرض صحـافيّ مغـرض، أو سطحيّ. ولا تزال هذه المجموعة تحظى بعناية خاصة حتى الآن، فاروق يوسف، مثلاً ، يرى فيها فتحاً في الشعرية العراقية. جاء بعـد ذلك تعرُّفي على تجربـة بدر شاكر السياب في مجموعتـه “أنشـودة المطـر”، ثم أدونيس، ابتـداء من غنائياتـه الآسـرة في “أغاني مهيار الـدمشـقيّ” تحديداً، ومع أنّهما معاّ كانا يسعيان صوب أفق شعريّ واحد، يمثل صميم الإبداع الشعريّ، إلاّ أن كلاّ منهما جاء من طينة شعرية مختلفة. كانت قصيدة السياب، على سبيل المثال، انثيالاّ وجدانيّاً وشعريّاً لا يكاد يتوقف. دفقاً من العواطف الليلية الراعدة، والرؤى المشحونة بالأشباح، والموت، وتشهيات الجسد، والكائنات الأسطورية.
أما أدونيس فقد كان مهندساً شعرياّ نادر المثال. كانت قصيدته مزيجاً شديد الإحكام، من تصدُّع الروح وجذوة الفكر وغواية اللغة. وكان ذلك كله ينبثق من وعي حـاد، وغنائية محسوبة بعناية.
س: كيف كنت تتلقّى تجربة الشعراء الرواد، أعني تحديداً: السياب، أدونيس، البياتي، سعدي يوسف؟
ــ كنت ميّالاً الى جانـبين في شعريـة السياب: الصـورة الشعرية المتوحشة، ووجـدان القصيـدة: أعني ما فيها من شجـن لاهب، وانهيارات روحيـة مدوية. وكانت هيمنة أدونيس على حركة القصيدة ونمو تفاصيلها من جهة، وتوهج نار اللغـة فيها من جهة ثانية، أكثر مظاهر شعـره إغراءً، بالنسبة لي. لقـد هزّ أدونيس شجرة الشعر بحميمية وعنف، وأخذها إلى تربة أخرى كانت جديدة عليها تماما.
وفي فترة لاحقة، تعرّفتُ على شعر عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف، وتجاوزتْ هذه المعرفة عالمها الشعريّ الى كيانهما الإنسانيّ والشخصيّ حين عملنا سوية في مجلة الأقلام العراقية في السبعينيات.
كان البياتي، إذا استثنينا بعض دواوينه الأولى التي شابها الكثير من المباشرة، ذا نبرة شعرية خاصة:  تنفتح على الوجدان الشعبي والإنساني، وتغتني باللغة اليومية دائماً. وقـد كرس لنفسه صورة ظلت  معادلاً للفرد المغترب عن ذاته وعن مجتمعه، للرحالة عبر الأزمنة والأمكنة، للمبدع، الرائي، المتمرد، الهجّاء، الضحية، المضطهد، الحالم. وكان لهذه النبرة الشعرية تأثيراتها على الكثير من الشعراء العرب، لعلّ أبرزهـم  سعـدي يوسف و محمـود درويش لا سيـما في مراحلهمـا الشعريـة الأولى تحديـداً.
كان سعدي يوسف من أكثر الشعراء العرب جاذبيّة. شاعر يذهب بنا الى بساطة من نوع خاص. في بداياته، كانت قصائده مشوبة بالكثير من بساطة البياتي في اللغة والموسيقى. ثم غـدا، مع الوقت، ذا نبرة تكاد تستعصي على سواه، وصاحب اجتهادات شعرية تجمع، بطريقة فـذة، بين العمق والبساطة، وبين السرد والغنائية الرفيعة.
هذه الأسماء كانت أكثر المواهب الشعرية افتراساً للآخرين، كانت حيتاناً شديدة الإغراء، لا يصمد أمام تأثيراتها إلاّ أصحاب المواهب الحقيقية. وقد كنت واعياً لهذه المخاطر الشعرية منذ البداية، ولذلك، كانت مقاومتي لها بالغة الضراوة ؛ فحرصت ألاّ أكون فريسة شعرية لأيّ منهم.
س: في كتابك “قبيلة من الأنهار” (2008) هناك ما يُشبه ردّ الجميل لشعراء وكتّاب عبروا ليل قصيدتك وارتفعوا بأشواقها، من أمثال جبرا إبراهيم جبرا ومظفر النواب ورشدي العامل ويوصف الصائغ وسعدي يوسف ومحمد الماغوط. هل هو نوع من “أدب الاعتراف” الذي يرسّخ آداب الصداقة الشعرية التي تكاد تنعدم في ثقافتنا الحديثة؟
ــ أنا معك في أن الصداقات الشعرية تكاد تنعدم في حيلتنا الثقافية. الحياة العامة أكثر صدقاً وأشد براءة. إنها ما تزال تحتفظ بقدر من الفطرة أو التلقائية، وما تزال أكثر احتفاء بالصداقة، وأكثر تعلقاً بقيم الوفاء.
ما كتبته في “قبيلة من الأنهار” هو، إلى حد ما، سيرة ذاتية من نمط مختلف، سيرة باتجاهين : سيرتي  وسيرة  الآخر. وهناك تمـتـدّ، بيننا، سيرة النص باعتبارها سيرة ثالثة.
في جـدل الأشكال الشعـرية
س: اختبرت كتابتك الشعريّة، عبر تاريخها، أنماط الشعر المعروفة، بدءاً بالقصيدة العمودية في أوّل عهدك بالشعر، قبل أن تتحوّل عنها إلى قصيدة التفعيلة التي تشغل مساحة مهمّة في خارطة تجربتك الإبداعية، فيما نجد لقصيدة النثر حضوراً باهتاً؛ هل يعني ذلك أنّ قصيدة التفعيلة هي خيارك الكتابي الأثير؟
 ــ كان تنقُّلي بين هذه المراحل الشعرية بحثاً عن أكثر أنماط القول الشعريّ ملاءمة لي. كان القلق الذي يعصف بي آنذاك كبيراً. من المؤكد أنني لم أكن أعيه تمام الوعي، غير أن إحساسي به كان عنيفاً ودائماً. كان مبعث ذلك الإحساس، وبعبـارة معاصرة، هو قلق البحث عن شكل شعـريّ أطمئـن اليـه.
في مطلع الستينيات بدأت كتابة القصيـدة العموديـة. وكان قصائد هـذه المرحلة تمثل، في معظمها، مسعىً الى كتابة قصيدة عمودية مضادّة، أعني قصيدة تتضاد مع السائد الشعريّ، أي الأنماط الشائعة أو المتداولة من الشعر العموديّ آنذاك. إن عنصر الصورة، وهو مكون شعريّ أساسيّ في تجربتي الشعريـة كلها تقريباً، كان يحضر في قصيـدتي العموديـة أيضاً، وبإلحاح واضح، وربما بلغت الصورة الشعريّة في تلك القصائد درجـة الغرابـة أحيانـاً.
لقد كتبت معظم تلك النصوص العمودية، في الفترة الممتدة بين مرحلة الدراسة الثانوية والسنة الأولى من الجامعة، أعني تحديداً، من 1963 إلى 1968م. وقد نشر بعض تلك القصائد في مجلة (العاملون في النفـط)، التي كان يشرف عليها المبدع الكبير جبرا إبراهيم جبرا، وبعضها الآخر في مجلة (الأديـب) اللبنانية، ومجلة (الشعـر) المصرية.
بعد هذه المرحلة مباشرة، أو عند تخومها الأخيرة، كتبت قصائد مجموعتي الأولى: “لاشيء يحدث .. لا أحد يجيء”، التي تأخر صدورها عن دار العودة في بيروت، إلى سنة 1973. من يتأمل هذه الأبيات، على سبيل المثال:
          رجْلايَ ما زال في الطرقاتِ نوحهما      ينمو جريحاً كذكرى عاشقٍ غجري
         عامانِ والجرحُ يهذي عبر حنجرتي      والحزنُ غيمةُ رعبٍ والحنينُ طري
          والرّيـــــــحُ ما عبرت يوماً شـواطئنا       إلاّ وحدّثتِ الغافـينَ عن  سهَـري
أو الأبيات التالية:
            أبحرتُ والجوعُ على مركبي        يبكي.. وتهذي عطشاً مقلتانْ
            أتيتُ نعشاً ، صرتُ قيثـارةً          محروقةً .. يأكل منها الدخانْ
            تلتفّ في أوتارهـا عشبــةٌ        من جرحيَ الطينيّ فوق اللسانْ
 أو:
           وجهي نعاسُ طيورِ الماءِ، يشعلهُ   رملُ النخيلِ وفي كفيكِ ينطفيءُ
            حقائبي حطَبٌ يبكي، وحنجرتي      سفينةٌ شبّ في أعشابها الصدأُ
             لكن ستبقين منـديلاً ، وأغنيـةً     بين الأصابعِ والأهدابِ تختبيءُ
لا يحتاج القـاريء كثيراً من التأمل أو كد الذهن، كما أعتقد، ليكتشف حركة هذه الأبيات وطبيعتها؛ فهي  تحرص تماماً على شمائلها المجازية، ولا تفرط تقريباً بأية فرصة للذهاب إلى تشويش الدلالة الكلية للنصّ، بل تشويش المعنى أيضاً، باعتباره وليد المكونات الصغرى للنصوص أحياناً.
أما قصيدة التفعيلة، فقد كان دخولي إليها ببطء وتهيُّب، كانت هناك ورشة بعيدة عن الضوء، أو هواء الشارع. ورشة لا يراها أحد سواي، تعمل بصمت مهيب؛ كان الإهمال أو التمزيق أو الحذف مصير الكثير مما كتبت.
كنت في اشتباك موجع مع الذات، وتحديات اللغة وطاقة الخيال، بحثاً عن طريق شعريّ يساعدني على رؤية نفسي الداخلية. وقد كنت وما أزال أرى في قصيدة التفعيلة الخيار الذي يلائم مزاجي الشعريّ والنفسيّ، ويتناغم مع تكويني الانسانيّ أكثر من سواه.
س: هناك من يدّعي بأن قصيدة التفعيلة قد استنفدت إمكاناتها الفنية ؟
ــ أعتقد أن هذا الكلام تعوزه الدقة إلى حدٍّ كبير، ولا أرى فيه بياناً نهائياً عن وضع شعريّ حافل بالمتغير والمفاجيء دائماً. إنّ الخيارات مفتوحة على ممكنات كثيرة، أرى أن قصيدة التفعيلة أوقصيدة النثر واحد من هذه الخيارات المهمة. قصيدة التفعيلة تحمل، أكثر من سواهـا ربما، عبء الكتابـة باعتبارها فنّاً. الفنُّ مشقة مدهشة، خروج من المتوقع أو المقدور عليه. أميل إلى الاعتقاد بأنّ الشعر حرية مائية تنتصر على الألفة وركام الأعراف. وحين نجرده من مكونه الايقاعيّ أو التركيبيّ أوالمجـازيّ، النابـض بالحيـاة والمفارقـة، فإنّما نلحقـه بالنثر الموزون كما يسميه جان كوهـن.
من حقي أن أرى قصيدة التفعيلة على هذا النحو، ومن حق سواي أن يجد خياره الشعريّ في النثر، غير أن معياراً ضروريّاً للشعرية لا بد من توفره على هذا الصعيد. الفن لا بد له من قوانين داخلية.  إنّ رقصة الباليه ليست كالهرولة، والغناء الحقيقيّ ليس صراخاً، كما أن العمل الدراميّ ليس مشاجرة في حارة  شعبية. لا بد من معيار يمكن تفحصه والتحقق من تجلياته في بنية الايقاع، ونظام القافية، ونحو الجملة الشعرية … وبغياب هذه  المعايير قد يصبح الحديث عن الشعر حديثاً سائباً، يفتقر إلى براهين نصية ملموسة.
س: في المقابل، لماذا لم تُغْوِك قصيدة النثر التي باتت مهيمنة في المشهد الشعري العربي اليوم ؟
ــ لا شكّ في أن قصيدة النثر فنٌّ شعريّ صعب للغاية؛ فهي انخراط الذات والعالم في شكل شعري مبرأ من الصراخ  والإطالات، ممعن في نقائه، وإثارته، ومجافاته لمألوف القول. هكذا أرى قصيدة النثر ممثلة بكتابها الراسخين.
أما على مستوى المشهد الشعريّ العام، فإن هذه القصيدة تكاد تصبح اليوم، وعلى أيدي الكثيرين ممن يدعون كتابتها، فنّ السهولة المطلقة، أو المتاح الشعريّ، الميسور للجميع تقريباً، العابر لشروط الكتابة الصعبة، والمستغني عن الوعي، والمنفلت، أحياناً، عن أيّ مرجعية جمالية أو لغوية، أو ثقافية.
أكاد أقول إن الكثير مما يكتب، محسوباً على قصيدة النثر، لا يمت بصلة وثيقة إلى هذا الشكل الشعريّ، بمعناه المحدد الدقيق. لا أنكر أبداً أن الكثيرمن هذه الكتابات يبلغ مستويات رفيعةً من الجمال، جمال النثر الراقي لا جمال الشعر،  فليس كلُّ نثْرٍ جميلٍ هو قصيدة نثر حقيقية.
من جهة أخرى فإنّ بعض الكتابات المندرجة تحت هذه المظلة النثرية، وهذا البعض ليس قليلاً على أية حال، لا يستطيع اللحاق بقصيدة النثر وما تتطلبه من موهبة شعرية عالية، وانفتاح معرفيّ على هواء الحاضر والماضي معاً، وقدرة على بناء القول الشعري وتأجيج مُكوّناته.
أنا كائن شعري، نشأت في حاضنة إيقاعية ثرية، ولا أجد نفسي خارج الإيقاع، ولا تغريني إلاّ النماذج التي ترى الإيقاع حُرّيةً لا قيداً. معظم شعراء القصيدة العمودية، وبعض شعراء التفعيلة، يتهالكون تحت وطـأة الـوزن، حتى نحـس أحياناً أن نصوصهـم مجهـدة، وأن قوافيهم تتصبب عرقـاً .
لي قصيدة في مجموعتي الأخيرة، تذهب الى ملامسة هذا الجانب:
  – راقصون:
   فضاءُ سلاسلهم ذهبٌ غائمٌ،
      وهتافاتُ أقـدامهم لغةٌ
                   حافيةْ..
– شعـراء :
– يضيئونَ من فرْطِ وحشتهـم،
  ويسيلونَ بين حصى القافيةْ..
لقد كتبت عدداً من النصوص التي تقع خارج الوزن تماماً. ومع أنها مشوبة بالشعر إلى حدٍّ كبير، لكنّني لا أعدها من قصائد النثر. ولا أقاتل، كما يفعل البعض، من أجل تسميتهـا كذلك، لكنني قـد أحسبها رئـة ثانيـة، إن شئت، أو مروحـة إضافيـة لتحريك هواء الكتابة.
عـن مضايق الكتابة، ومنفاها وأحوالها..
س: كيف تتخلق بداخلك القصيدة؟ وكيف تنقلها إلى حيّز الكتابة؟
ــ قد تتشكل القصيدة عندي على شكل صورة مغبشة، أو إيقاع يتيم. قد يأتيان معاً، أو يأتيان منفرديـن.  ثم يبدأ ذلك الإيقاع أو تلك الصورة بالاختمار، والتوسع، حجر ينـداح في بحيرة صافية، أو حفيف شجرة بعيـدة لا يكاد يسمع. ثم يكبر شيئاً فشيئاً كلما اقتربت منها.
وقـد تظل بداية القصيدة قابعـة في الظلّ فترة قبل أن تخرج إلى فضائها اللفظي، قـد تظلّ في الذاكـرة أرددها مع نفسي، أو في ورقـة مطويـة، أو قصاصة صغيرة. وقد أكتب قصيدة جديدة بينما تظلّ تلك  البداية الشعرية قابلة لكل الاحتمالات.
قليلة هي القصائد التي أنجزت كتابتها في جلسة واحدة، أو في يوم واحد. لا أميل إلى القصيدة الطيّعة التي تستسلم لمصيرها دون مقاومة. ويبدو لي أن الشاعر، أيّ شاعر، قد لا يحب القصيدة التي تأتي إلى سريره الشعريّ دونما تمنُّع، وقد ينظر إليها بشيء من الارتياب الفني أحياناً. وفي الغالب، لا يقودني إلى قصيدتي معنى مسبق، أو إطار معـدّ سلفـاً.
وإذا حدث ذلك فإن للقصيدة، في الغالب، رأياً آخر. يحدث أحياناً أن أقترح على القصيدة أفقاً لفكرة ما، لكن هذا الأفق قـد يظل مضبباً، وقابلاً للتعديل على مدى كتابة النصّ. وهكذا فإن القصيدة تنفر من التفاصيل الملزمة، وذلك ما يحـدث لي، ولغيـري من الشعـراء كما أظن، في كثير من الأحيـان.
ومع أنني أميل إلى الكتابة ليلاً، إلاّ أن اندلاع الشرارة الأولى يظل عابراً لكل تموُّجات الزمن؛ فهو قد يحدث في الأزمنة جميعاً وفي الأمكنة كلها تقريباً. كما أن زمن الكتابة الشعرية مشوب بالبهجة والتوتر دائماً. وقد ترتفع مناسيب هذا القلق أو تلك البهجة بموازاة فعل الكتابة ذاتها؛ فحينما تستعصي عليّ القصيـدة أكون في أكثر حالاتي كآبـة وشـروداً، ولا أستعيـد طفولتي الأولى ومرحها الجميل إلاّ بعـد أن تسلمني القصيـدة قيادهـا، وتتضح أمامي مسالك الغابـة تماماً.
س: من خلال حرصك على شفافية اللغة في علاقاتها الغائمة بالأنا ودفق الإيقاع وخصوبة الرؤيا، نشعر أنّ هناك غنائيّة تجريدية خاصة بك، قادرة على السياحة بالشعر في ضفاف المجهول. ألستَ تعتبر الغنائية هي الوجه الأنقى للشعر؟
الشعـر، في محصلتـه المؤكـدة، إنعـاش للغـة، واختـراق لثوابتهـا الراسخة. إنّه طريقة خاصة في ملامسة اللغة، واستفزازها للوصول بها إلى أقصى ممكناتها في الأداء. وغنائية القصيدة الحديثة أحد هذه الممكنات، وهي لا تعني السذاجة دائماً. الغنائية الساذجة هي التطريب، العائم على سطوح الأشياء، والاكتفاء بملامسة العابر، والمؤقت من ظواهر الحياة وحركة الأشياء.
أعتقد بأن غنائية كهذه هي عبء على القصيدة، ومجافاة لوسائل الشعر وألاعيبه الجميلة، وهي إثقال القصيـدة بحمولات من العـواطف الفائضة عن النصّ وضروراته الفنية.
الغنائية الحديثة مكون شعريّ بالغ الحيوية، إنّها بلل الروح الذي يعمق من رؤيا القصيـدة، ويضمن لحكمتها القاسيـة بطانـة وجدانية تبتعـد بها عـن الحمولات الفكرية المجهـدة للنصّ.
لذلك تضايقني كثيراً هـذه اللغـة الناشفـة في الكثيـر من نصوصنا الشعـريـة. تبـدو لي، أحياناً، وكأنهـا لغــة من خشب باهـت: تفتقـر إلى لوعـة القلب، ومـبرأة من الإحسـاس بالفـرح أو الإحساس بالفجيعـة، ولا تشتبك بعمق مع ما يحتـدم في أعماق النفـس من تشـظٍّ، وعـويل مكـتوم.
أتذكر، الآن، قصيدتي “دافئاً كالخـرافـة” في مجموعتي (هكـذا قلـت للريـح). لقـد كانت تعبر، تماماً، عن هذا الإحساس:
يا مـاءُ،
يا أيهـذا العصيّ الحنونْ
لغـة ً كنتَ لي
حينما اخشـوشـنَ الآخرونْ.
س: هناك حواريّة لافتة تُقيمها بين الطبيعة والمرأة في جسد القصيدة، وهو ما يدخل اللغة الشعرية في شبكة من الرموز والعلاقات الفنية التي تثريها. ما السرّ وراء اهتمامك بذلك؟
الطبيعة والمرأة تُمثّلان مكمن الجمال الذي لا ينفد ولا يشيخ. هكذا هما منذ بدء الخليقة وحتى هذه اللحظة، وسيظلان كذلك دائماً. إن حياتنا، بدونهما، ستفقـد الكثير من دلالاتها العميقة، حيث يحاصرها اليبس والغِلْظة وتحـفّ بها مظاهر الذوق المتدني من الجهات جميعاً.
لقد عقدتا، منذ الأزل، بينهما ميثاقاً جمالياً لا ينفصم. وكانت كل منهما تقرض الأخرى، وتقترض منها أيضاً، الكثير من سجايا الجمال ولذة الشبه، ودفء الخصوبة، حتى أصبحتا، في الواقع والمخيلة والنصوص، فضاءين يغذيـان بعضهما بعضاً بكل ما يوحي، ويثير، ويُـشتهى.
وهما، أعني الطبيعة والمرأة، ذخيرتان شعريتان بامتياز، تفيضان بـثراء رمزيّ هائـل: تمـداننا بمنظومـة عريضة من عناصر الحلـم والـوهـم والأسطـورة والتأمـل، وتـوسعـان من مـديات التأويل للنصـوص الإبداعيـة المختلفـة.
ولا أنسى وأنا أتحدث عن هذه الظاهرة عندي، أن أزيح القصيدة جانباً، لأتفحصّ هواء الحياة وأرى أثر المرأة فيه. أعني أن أضيف تلك المرجعية الواقعية التي أعطت للمرأة، في حياتي، ثقلاً وجدانياً ونفسياً خاصاً: أمّاً، وأختاً، وحبيبة، وزوجة، وابنة.
لقد كانت المرأة، بكل تجلياتها، طرفاً أساسياً في تعميق إحساسي بالحياة، وكانت أيضاً تجسيداً لأكثر الانفعالات جمالاً، وأكثرها  قسوة أيضاً، الغبطة والمرارة، النبل والضغينة، التضحية وتضخم الذات.
س: في سياق ذلك، ثمّة حضور آسر للأمّ، وهي بقدرما تمثّل لديك شعوراً غامضاً بدفء الرحم بقدرما تعني الطريق إلى النهاية. هل مثل هذا الاقتراب الدلالي في الفهم ناجع في سيرورة التأويل؟
ــ يبدو لي أنّ الأم، بالنسبة للمبدعين جميعاً تقريباً، ليست حقبة عمرية عابرة، بل هي أشد عمقاً وأكثر خطراً من ذلك. إنها زمن، أزليّ، قدسيّ، مفعـم بكل المشاعـر والانفعالات الذاهبـة الى العمق: تفتّـح الرغبات الأولى، حنين النفس الدائم الى الينابيع، الإحساس باليتم الكونيّ، الحاجـة الى الالتئام والأمـن والتجانس، الحب الكبير، الحزيـن، الفـرح، المكتفي بـذاتـه، المبرأ من كل غرض سواه.
كانت أمي، زمناً وجدانياً مديداً، له ما للبراري من سعة وتلقائية. بسيطة وذكية وممتلئة بالرحمة والمرح النبيل. لقـد جسدتْ، من خلال حبهـا لوالـدي وتفانيها من أجلـه، صورة المرأة التي لا يضيء  كيانها إلا الحب الخالـص.
وكانت كذلك في تربيتها لنا، نحـن أبناءها الثلاثة. غمرتنا بالكثير من افتتانها بوالدنا، وجنونها به، وربما كنت أحظى بالنصيب الأوفر من تلك المشاعر. وحين أتأمل قدرتها الخارقة على إقناع أبي بالهجرة الى بغداد أدرك تماما أنها لعبت دوراً جوهرياً في تغيير مسار حياتي وما آلت اليه لاحقاً. كان  يمكن أن أظل، لولا دورها ذاك، ابناً لفلاح لم يرث من والده، إلا شقوق يديه.
حملتُ الكثير من توهج روحها الشجية، وملامستها الدافئة للأشياء، وقد تركتْ  في نفسي، بعد رحيلها، ندوباً لا تمّحي. لهذا كله، كان  لها هذا الحضور. وكان آسراً كما وصفته أنت فعلاً.
تأويلك لحضور الأمّ في شعري لا يبتعد كثيراً عما أحسه وأمتلئ به. تظل الأم تلك الحاضنة الطرية الأولى، التي لا نكف عن التلفت إليها طوال حياتنا، كما أن رحيلها  يدفعني، أكثر مما يفعل رحيـل الأب ربمـا، إلى الإحساس الغائم بالنهايـات، لكـل ما هـو طهـرانيّ، وفردوسيّ، وحميميّ. أن ترحل أمُّـك يعني وقوفك، عارياً، أمام الموت كله، وأنك الضحية القادمة، إذ لا مصدات للريح، ولا سقف يرد عنك الأمطار السوداء..
س: يكتشف القارئ في نصوصك الشعرية مسحةً شفيفة من الحزن، وشعوراً بحكمة الفقدان والخسارة. ما مصدر ذلك، وما آثاره الكثيفة على العلاقات اللغوية التي تحرص على شفافيّتها في نسيج النص؟
ــ الشعر، عموماً، وريث الخسارات وابن الفقـدان. قليل هو الشعر الذي أنتجه الفرح الغامر. الفرح يعاش، ويُستمتع به، ولا يمكن التعبير عنه شعرياً إلاّ إذا تحوّل إلى ذكرى: أي إلى فقـدان.
وكثيرة هي لحظات الفقـدان التي عشتها، منذ طفولتي حتى الآن. فقـدانات عديدة خاصة وعامة. وربما أكبر هذه الفقدانات، والذي قد يفوق الخسارات الشخصية كلها، بلادي التي أخذت تتآكل يوماً بعد آخر بعد أن اشتعلت فيها الفتنة وتكرس الجهل وعمّت الفوضى. وربما يكون نصيبك من هذا العناء أقسى حين تكون بعيداً عن وطنك ومفتقراً حتى لرحمة المنفى.
إن المنفى، رغم مرارته الفادحة، هو استقرار من نوع ما، أما أن تعيـش الخسارتين معاً، طافياً على وجه الريح، لا الوطن ولا المنفى، فهو التمزق في أقسى مدياته مرارة، وهذا ما تجد تشظياته في أكثر من  قصيدة لي:
               في إثرهـا ثملاً أمضي
              على كتفي عباءتي وخساراتي،
               أكنتُ كمن مضى وعـادَ:
               أضاع الحُسْـنيَـيْنِ معـاً،
               لم يلقَ منفـاهُ في المنفـى
               ولا وطنـهْ..؟
قصائدي تعاملت مع تلك الخسارات بفجائعيّة شعرية بالغة النقاء. لم تتلوث بترهُّلات ذلك الواقع وصلادته، احتفظت بلغتها الخاصة، لغة التعبير الخاطف، النقيّ، عن أكثر المظاهر قبحاً في الحياة.
أناقة القصيدة عندي كانت احتجاجاً على القبح، وعلى تدنّي منسوب الجمال في الكثير من نصوصنا الشعرية. أنا لست مع من يذهب بالقصيدة لتكون تعبيراً أيقونيّاً عن واقع ما. على االقصيدة أن تصطاد الجوهريّ من حركة الحياة بوسائلها الشعرية الخاصة، لا أن تقتـرض من الحياة ما فيها من مباشرة، أو قبح.
س: في أعمالك الأخيرة ثمّة عودة إلى الأساطير والرموز والأقنعة التراثية والتاريخية. هل يمثّل ذلك بديلاً من حنين ما، أو عزاء في المنفى؟ وبالنتيجة، هل لنا أن نقول إنّ ثمة طفرة من عالم الطبيعة الحسّي والأليف إلى أتون الأسئلة الكونية ذات المرجع الميتافيزيقي والحضاري؟
ــ قصائدي، في معظمها، لا تحيا بعيداً عن هذه الأجواء. كان التراث بكل تجلياته على مرمى آهـةٍ منّي منذ قصائدي الأولى. وربما كان ابن زريق البغدادي أول الأقنعة التراثية في مجموعتي الأولى، وكان الكثير من الابداع الشفاهيّ العراقيّ، والإبداع المـدّون، في الماضي والحاضر، عراقياً وعربياً وعالمياً، يقع في مدى الوظيفة الشعرية لقصائدي.
بعد الاحتلال، وجدت نفسي في مهبّ كثافة أسطوريّة نادرة . كان العراق، بكل ثرائه الأسطوريّ والشعريّ والروحيّ، يهدر في الأعماق، ويتسرب إلى عـروق القصيدة، ويشكل الكثير من ملامح البناء وفداحـة المعني. كان حضور العراق، بهذه الكثافة الروحية، مقاومة شعرية لما يتعرض له من إبادة وامتهان على المستوى الفعليّ.
يمكنني القول إن الانتقال من فضاء الطبيعة وفتنتها العارية إلى متاهة الأسئلة المرة يعود الى بداية التسعينيات، تحديداً مع ديواني (أيـام آدم ) الذي صدر في بغداد عام 1993. وقد أشار الى هذا التحوُّل أكثر من ناقـد، وربما كان حاتم الصكر أسبقهـم إلى تأشير هـذا التحول.
س: مع التحوُّل الجمالي الذي تمرُّ به تجربتك، هل تعتقد بأنّ جملك الشعرية في قصرها وكثافتها بقادرة على استيعاب رؤيتك الملحمية الجديدة إلى الذات والعالم؟
ــ ألا ترى معي أن الصدمة الشعرية لا تتحقـق، في الغالب، إلاّ بفعل هـذه اللغة الشعرية الخاصة؟ لا أميل إلى الشعر الذي يتنازل عن شمائله، عن توتره، وكثافته، وإيماءاته الخاطفة.
هذه الخاصية تضاعف من قدرة الشعر على تأجيج خميرة التوتر، والوصول بإيقاع الروح إلى أكثر منحنياتها حيوية وإثارة. أضيق أحياناً بالقصيدة التي تنفتح، بشراهة، على مكاثرة الكلام، واستقدام التفاصيل الزائـدة عن حاجـة القـول الشعريّ، هـل هي أكذوبـة النفس الطويل مرة أخرى؟ أم هو دفع القصيدة إلى مزاحمة غيرها، من أنماط القول، التي تتسع بطبيعتها لانهماكات الفكر، واستفاضاته القاهرة لحكمة الايجاز.
س: يلاحظ أنّ شعرك، رغم ما عاشه من عصور وأحداث مضطربة سياسيّاً وفكريّاً، بقي بمنأى عن أن يتأثر بالإيديولوجيا أو بالواقعية الفجّة، وهو ما كان كافياً أن ينقذ ماء كتابتك، ويجعلك راهنيّاً باستمرار. هل هذا ذكاء الشاعر، أم استراتيجية الرائي؟
ــ كنت منذ البداية، كما قلت في إجابة سابقة، أبحث عما يجعلني مختلفاً عن سواي. ما يعزز إحساسي دائماً أنني لا أشبه شاعراً آخر، ولا أمتّ بقرابة شعرية إلى أحد. ووسط تلك الأجواء المعبأة بالصخب والدخان والشعارات وألوان الانتماءات البراقة حاولت، وبضراوة لا تعرف الادعاءات، أن أنأى بقصيدتي عن تلك الولائم الإيديولوجية، وما يشيع فيها من شللية ومجاملات.
إضافة إلى هـذا الهاجس، أعني النزوع إلى الاختلاف في السلوك الشعريّ والحياتيّ، فإن قَدْراً من المقاومة الصامتة، أو قَدْراً من الوعي، إن شئت، كان يحصنني ضد الانغمار في تلك المظاهر غير الشعرية، التي مارسها البعض مؤمناً، أو منتفعاً، أو مضطرّاً.
س: ما هي أهمّ الأحداث والمصائر، الشخصية والجمعية، التي ألحّت عليك تجديد النظر الشعري، أو هي مثّلت قطائع في حياة قصيدتك برمّتها؟
ــ يلعب السجـلّ الشخصيّ للشاعر دوراً كبيراً في تجديد روحه، والصعود بها إلى أرقى طرق التعبير عنها وأكثرها حيوية. ولا يقف بعيداً عن هـذا المؤشر المشهد العام، الاجتماعي، والسياسي، والثقافي.
وقد لعب هذان العاملان دورهما متضافرين بالنسبة لي. كان لا بُدّ من مراجعـة تجربتي والتحقق من جدارتها الشعرية، ومتانة صلتها بالمشهد الشعريّ في أفضل تجلياته.
من جهة أخرى، كنت وما أزال لا أثـق كثيراً بالقفـزات الفنيـة المفاجئة في تجربـة شاعـر مـا. النار المتأنية، والصابرة. التطور الذي تنضج فيه التجربة بعمق وبطء وعلى مهل. هذا ما أسعى إليه دائماً.
إن القفز من شجرة إلى أخرى ليست خاصية شعرية دائماً، فهو يضيع على الشاعر، في الغالب، فرصة النموّ الداخلي المتناغـم، ويقطع عليه خيط مسيرتـه النامي الذي ينتظـم مراحلـه كلها، ويخترق تحوُّلاتـه بحبـل شـعريّ وإنسـانيّ متصـل.
في ميزان التاريخ والنقـد
س: صار من المألوف اليوم، في حقل الدراسات النقدية، “تجييل” الشعراء أو تصنيفهم إلى أجيال. في تاريخ الشعر العراقي، نعرف الطفرة النوعية التي أحدثها جيل الستينيّات، بمرجعيّاته ومصادر كتابته، في تحديث القصيدة على صعيدي الشكل والمضمون. ما وضع كتابتك ضمن هذا الجيل أو الذي أتى بعده؟
ــ كنت من جيل الستينيات، ولم أكن منه تمامـاً. كان جيلاً شديد الحيوية، وكان متنوع النبرة ومتعدد الانتماءات السياسية الى حـد كبير: منهم التجريبيّ حد الفوضى، وشاعر التفعيلة، وشاعر النثر. وكان بينهم الماركسيّ، والقومي، والمستقلّ.
أتيت إلى هذا الجيل متأخراً، في النشر، نسبياً، واختلطت بالكثير من شعرائه، بحذر شديد. كان يعجُّ بالمواهب الكبيرة، لكن فيه الكثير من الأدعياء أيضاً. ولو عُدْتَ إلى صحافة الستينيات لعجبتَ من تلك الكثرة الهائلة من الشعراء الذين أغرقوا صحافة تلك الفترة بالضجيج حيناً وبالوعود الجميلة حيناً آخر. أين هم الآن؟
كنت أترك شراعيَ لريحٍ خاصة، ولم أكن أعبأ كثيراً بصخب المراكب المجـاورة، ولم أكن أعنى بالشلليـة التي لا تثمـر، في الغالب، غير الصداقات النيئة.
في ذلك الجوّ الذي كان يزدحم بالمواهب الحقيقية، كان للادعاءات، والصراخ الإيديولوجي، والمطولات الشعرية حضورها أيضاً. كنت من أكثر الشعراء احتفاءً باللغة والصورة: أنكبّ على قصيدتي، وأحيطها بالكثير من العناية لأخلصها من الاستطالات، وباروكات اللغة الزائدة. كنت أسعى، وما أزال، إلى كتابة قصيدة قلبيـة، ملمومـة، صافيـة، ومفاجئـة.
س: هناك من يرى أنّ تجربتك لم تدرس نقديّاً بما يكفي، وذلك لسببين: أنّك وقعت بين جيلين فلم تحسب على أحدهما من جهة، ومن جهة أخرى بسبب أن معظم نقاد تلك المرحلة كانوا موزّعين على قبائل وأحزاب سياسية وإيديولوجية متطاحنة؟
ــ كانت السماء، في الستينيات وما بعدها، تمتليء، حدّ الاختناق، بالشعراء والكمائن والولاءات الإيديولوجية. وكان التدافع لاحتلال الصـدارة على أشُـدّه. تدافـعٌ غير شعـريّ، أحياناً، للوصول الى صدارة شعرية. كثيرون حملوا إلى شجرة الابداع  أمطاراً جديدة. آخرون، وهم كثر على أية حال، حلقوا بأجنحة غير شعرية، جاؤوا بها من خارج النصوص: ولاءات حزبية، انتماءات إلى قبيلة سياسية باطشة. وكانت تفعل فعلها في تلميع أسماء لا تمتلك البريق الكافي أصلاً.
كان لكلّ شاعر قبيلته السياسية، ولكل قبيلة سياسية شعراؤها ونقادها. كانت الولائم السريـة والأعراس الصغيرة في حركـة دائبـة جاذبة للكثيرين، وكانت طاردة للكثيرين أيضاً. وبفعل ذلك كله هواء المدينة يضيق، شيئاً فشيئاً، على القصيدة الخاصة، المكتفية بذاتها، الخالصة لوجه الشعر وعذاباته الفردية البليغة. وهكذا ظلّت هذه القصيدة تدافـع عن طبيعتها الصافية ببسالة شعرية نادرة. وتقاوم، بنقائها وحده، هتافات المنابر، ومحاولات التهميش والإقصاء.
قلّة من الشعراء هي التي نجـت من تلك السوق الشعريـة الصاخبة، بعد أن خلفت وراءهـا غثاء السيل ونداءات الباعة. وبعيداً عن أيّ تواضع مفتعل، كنت من بين تلك القلـة، التي ربحت القصيدة وخسرت المهرجان؛ حيث  كانت القصيدة أثمن غنائمنا آنذاك.
وفي الوقت الذي كان فيه البعض القليل من نقاد تلك المرحلة يصارع من أجل ذائقة جديدة، كان الكثير من النقاد محسوبين على هذي القبيلة السياسية أو تلك. جاؤوا إلى النقد لا بفعل نباهة نقدية مكرسة،  بل بنفوذ قبائلهم السياسية المتطاحنة. كانوا يكيفون منظومة مفاهيمهم النقدية، ويمارسون إجراءات التطبيق لصناعة تيجان زائفة، وبناء ذاكرة مغشوشة. لقد كانوا يعيدون صياغة المشهد الشعريّ على هواهم العقائديّ، ويكرسونه في الأذهان كما يريدون.
لذلك كله كانت قصائدي تقع خارج اهتماماتهم النقدية، فهي بحكم انهماكاتها الجمالية، وسعيها، في الغالب، إلى الدلالة الغائمة، واحتفائها باللغة المراوغة لا تلبي طموحات ذلك النمط من النقاد؛ فقد كان الكثيرون منهم باحثـين عن المعنى المهرجانيّ، الواثق من الغـد، والمتيقن من انتصار الشعـوب. لا شـكّ في أن نقـداً إيديولوجيّاً كهـذا لا يجـد مبتغـاه في قصيـدة مضببة، أو خالصة من المعنى العقائديّ في معظم الأحيان.
نُقّاد آخرون كانوا يعانون، في الغالب، من برود جماليّ فاضح، أو أنهم لا يملكون معرفة نقدية ثاقبة، أو مستوىً إجرائيّاً رفيعاً يؤهلهم لمواجهة النص الشعري الحديث بروح مرنة ومغامرة.
وحين كان يهـدأ ذلك الغبار الإيـديولوجي، على المستوى الظاهـري الفـجّ، على الأقل. كان يتجه، بـدهاء فائـق للعادة، إلى تسميم المياه الجوفية للحياة، في مستواها الشعـري تحديـداً، ليظل ذلك الغبار يمـارس وظيفتـه تلك بخفـاء شـديـد، ورشاقة لئيمة.
وهكذا بقيت بعض الأسماء الشعريـة خارج ذلك الضجيج كله، تمارس غواية القصيدة وعذاباتها بكفاءة جمالية عالية، لكنها لا تلبي احتياجات السوق الإيديولوجية، ولا تستجيب لإغراءاتها.
هناك عامل ثالث لا بد من ذكره يتمثل في جبلة فيّ لا أستطيع التحرر منها: كانت الشللية في الحياة الثقافية، في الغالب، تحكم العلاقات بين الشعراء والمثقفين. وقـد كنت، وما أزال، من أكثر الشعراء زهداً بتلك الشلليات، إنها على النقيض من تكويني النفسي والخلقيّ، ولا أجدني قادراً على تجرُّع أقداحها المرة.
يحضرني الآن مقطع من قصيدة كتبتها في بغداد أوخر الثمانينيات، كان عنوانها ‘مائـدة الشاعر”، نشرها الشاعر عدنـان الصائغ في مجلة ‘حـراس الوطن’ حيث كان يشرف على صفحتها الثقافية، ثم نشرت بعد ذلك في ديوان “أيـام آدم”، بغداد، عام 1993:
        من سأدعو إلى جلستي؟
        من يشاركني خضرة َ الرّوح ِ
       أو مطـرَ المائـدةْ؟
       لا نبيذي نبيذهـمُ، لا هواهـمْ هوايَ،
       ولا تلكـم ُالغيمة ٌالصاعدةْ
       تستفـزّ طفولتهـم ..
       شجرٌ خاملٌ، وأرائكُ من خشبٍ
       ونفاق ٍقديمـين:
             يا ورقَ الضوء،
             يا دفء غزلانه الشاردةْ
            أين أصبحتما؟
إضافـة إلى ذلك، يمكنني القـول وبثقـةٍ كاملة، إنني لا أجيـد فنّ العلاقات العامة، وأكاد أجهل تماماً فنّ التبشير بالذات والترويج لما أكتب. ألا ترى معي أن الكثير من شهرة الكثيرين، من شعراء هذه الحقبة أو سواها، لا يعود إلى الموهبة وحـدها؟ إن للدهـاء الاجتماعيّ، والبراعة في فنّ العلاقات العامة، والترويج للـذات أثراً لا يخفى على أحـد.
س: كيف ترى تلقّي تجربتك الشعريـة الآن، أعني بعـد هـذه الرحلـة؟
ــ هناك تغيُّر واضح في بوصلة التلقي الشعريّ، عامة. في السنوات الخمس الماضية، صدر عني ثلاثة كتب نقدية: “شعرية الذكرى” للناقد التونسي مصطفى الكيلاني، و”ثنائية الماء والنار” لأحمد عفيفي وسها السطوحي، وأخيراً “الصوت المختلف”، ساهم فيه أكثر من أربعين ناقداً وشاعراً عراقياً وعربياً، قام  بإعداده والمشاركة فيه أحمد عفيفي.
إضافة الى ذلك، أُنْجِزت في جامعات العراق، أكثر من رسالة جامعية عن شعـري. خمـس رسائل، في جامعـات: بغـداد، المستنصريـة، الموصل، تكريت، كربلاء. كما صدرت لي، في مدريـد، مختارات شعريـة قامت بترجمتهـا إلى الأسبانيـة وكتبت مقدمتهـا المستعـربـة مانويـلا غارسيـا كورتـس.
س: كيف تفاعلت، وجدانيّاً وإبداعيّاً، مع ما سُمّي بـ(الربيع العربي)؟ وهل ترى أن الشعر لا زال بمقدوره أن يفعل ويؤدّي دوره التحريضي؟ أم أنّ هـذه الوظيفـة ولّت إلى غير رجعـة، أو على الأقـلّ استبدلت بوظيفـة أدقّ وأخطـر؟
ــ قـد تصدر إجابتي، وأنا العراقيّ الموجع، عن تجربة مريرة، وقد لا ترضي إلاّ القلة ممن يشاركونني شكوكي، لا بالربيع العربيّ وحـده، بل بفصول السنوات العربية كلها.
يذكرني مصطلح الربيع العربيّ بربيع آخر، ربيع براغ 1968. ومع أنه كان ربيعاّ حقيقياً، إلا أنه على مستوى التسمية على الأقـلّ يمثل قـدرة الغرب على اختلاق المصطلحات، وزحزحة المفاهيم. هاهو البلد الذي زعموا تحريره من جلاديه، يوغل في الغياب يوماً بعد آخر، حتى ليكاد أن يصبح ذكرى. إن لغتي لا تقوى على الافصاح، ياصديقي، وحنجرتي مليئة بالجثث.
لا أعتقد أن ما سُـمّيَ بالربيع العربيّ قد أنتج، على الأرض، ربيعاً حقيقياً واحداً. أخشى ألاّ يكـون في انتظارنـا هناك إلاّ الخـريف وهـو يعود بنا، في النهاية، إلى أزمنة أكثر بطشاً وأشدّ تخلُّفاً.
أخشى أنّ شكوكي تفسد لديّ قدرتي على التفاؤل. إن هـذه الثورات، بكل ما فيها من عنف تلقائيّ كاسح، هي غضبٌ شعبيٌّ حقيقيّ. لا جـدال في ذلك. غير أن هناك كما، يبدو، إرادات كونية تترصد هـذا الانفعال الجارف لتتحكم في نهاياته، أو نتائجـه.
أما قدرة الشعر على التحريض، فهي قدرة مشكوك فيها الآن إلى حد كبير. لقـد ذهبتْ مع ذهاب الأحلام الكبرى، والشعراء الفرسان، والشوارع المعبأة بالدم والهتافات. كانت الجماهير تهبط إلى الموت من ذرى تلقائيتها الجارفة مدفوعة بالحلم أو الوهـم أو سـذاجـة القلب. أما الآن فالجماهير، وهي كلمـة صارت محقـرة إلى أبعد الحدود، قد ضعفت فيها شهوة الحياة، لفرط ما لاقت من قمع، وتجويع، وإذلال. هذا من ناحية. ولأن ما بقي من حيويتها تلك جرى تشظيته على شكل ولاءات صغيرة، دينية وطائفية وعرقية وإثنية، من ناحية أخرى.