أدونيس مثخناً بالضوء والطعنات

 
لا أظن أنّ هناك شاعراً، باستثناء المتنبي ربما ، استطاع أن يملأ الدنيا ويشغل الناس كما فعل أدونيس. وباستثناء هذين الشاعرين ، يمكن القول إن شعرنا العربي قد ســار، عبر تاريخــه الطويل، سيراً وديعـاً متجـانسـاً ودون حرائق أو مشاكسات في معظم الأحيان.
لقد مرّ الكثير من شعرائنا عابرين كالحمائم: لا يشتبكون مع الممنوع إلا نادراً، ولا يتشاجرون مع ذواتهم إلا في أحيان قليلة، ولا يفصحون ، في الغالب، إلا عن تجربة شائعة تذوب في المناخ الشعري العام، وتتراجع أمام صلابة المكرور والمتعارف عليه من قيم الحياة والأدب والأيدلوجيات.
أما أدونيس فقد كان، ومنذ شبابه الشعري، شاعراً من قماشة مختلفة عن السائد تماماً. إنه النتوء الوعر والجميل في تضاريس شعرنا العربي منذ قرون عديدة. وهو الشاعر الذي مرّ على زمننا الشعري، كملاك مثخن بالضوء والطعنات، فايقظ بلغته الجهنمية ورؤياه المحرقة ماء اللغة، وعذاب العقل، وذكاء الروح، من أجل قصيدة جديدة مقلقة.
في كتـــابه (هـا أنت أيهـا الوقت) يكتب أدونيس وبلغته المفعمة باللطف والتداعيات سيرته الشعرية والثقافية، ويكشف لنا عن أشياء كثيرة تتعلق بمشروعه الإبداعي وخياره الفكري اللذين ارتضاهما قدراً لا يمكنه الإفلات منه. لقد كان، ومنذ طفولته، مسكوناً بشرارة التمرد والمواجهة. ولم يكن أدونيس، في مواجهاته، عنيفاً أو فظاً، بل كان على العكس من ذلك تماماً: كان هادئاً وفي صميم الجـــدل الأدبي المتحضر. كان يحـــاول، على الدوام، أن يرتفع بالسياسة إلى الشعر، وبالحياة إلى الحلم، وبالخاص إلى العام.
هل كان يعلم ذلك الطفل الصغير، وهو ينحدر من كوخه الجبلي إلى السهل، أنه كان يتجه، رمزياً، وجهة معاكسة: من سهل الحياة إلى تضاريسها الوعرة؟ هل كان يعلم أن طفولته المشحونة بالمطر والريح والانفعالات لم تكن إلا صورة مصغرة لحياة مدوّية يسعى إلى تحقيقها ؟
كتب، ذات يوم، أنه قرر ومنذ البداية ألا يرد على خصومه ومهاجميه، وأن يوفر وقته لما هو أجمل وأبقى: الإبداع. ويضيف أنه لم يخالف هذا المبدأ إلا مرة واحــدة حين رد على مقــالة لصلاح عبد الصبور، وما يزال نادمــاً على ذلك. وإمتناع أدونيس عن الرد على خصومه لا يخو م نرجسية كبرى. إنه يحرمهم من تحقيق أقصى أحلامهم: أن يقال عنهم “هؤلاء هم أعداء أدونيس”. ورغم ما في عبارته هذه من شحنة ذاتية عالية، فإن أدونيس جعل منها منطلقا لسلوك لا يحيد عنه.
تتآزر، في شعر أدونيس، عوامل عديدة لتبعد دلالة القصيدة عن الواجهة؛ فلغته تقع، دائماً، على الحافة القلقة للأشياء، وتغترف من أنهار متشابكة، لتصوغ نكهتها الخاصة. إنها، في الغالب، لغة الحلم، والأسطورة، والحدس، والتصوف، وأقنعة المعذبين، وتغييب الدلالة، والانزياحات الغزيرة . ولا يقع شعر أدونيس، في معظمه، بعيداً عن سيرته الشخصية ومكابداته الخاصة؛ إن غالبية قصائده تأتينا مضاءة بتلك النبرة الاعترافية، والتلفّت الدائم إلى البدايات:
أبوايَ انشطارٌ :
دمٌ للعذابِ، دمٌ للمؤمَّل والمنتظرْ
هبطا من أعالي القبائلِ، من رأسها
يُسرجان خيول السهرْ ..