يحدث كثيراً أن يكتب شاعر قصيدة عن شاعر آخر ما يزال حيّاً، ولكن ما لا يحدث دائماً هو أن تكون تلك القصيدة مرئية مبكّرة لذلك الشاعر قبل موته الفعلي، أو نبوءة فجائعيّة برحيله الوشيك. حدث ذلك ، كما أذكر، مرتين، مرة حين كتب فوزي كريم قصيدة عن الشاعر حسين مردان: كانت تمور بجوّ رثائيّ غريب، وسرعان ما امتزج ظهور القصيدة برحيل مردان حتّى ظنّ الكثيرون أن تلك القصيدة تالية لحدث الموت.
والمرة الثانية في عام 1989 حين طلبت من الشاعر ياسين طه حافظ قصيدة لنشرها في مجلة الأقلام. فأخبرني أنه مشغول بقصيدة جديدة عن رشدي العامل. أردنا، ياسين وأنا، أن نفاجئ صديقنا المشترك بالأمر فكتمنا خبر القصيدة عنه. وفي شهر آيار من ذلك العام ظهرت القصيدة وكان عنوانها (الموعظة، أو مسألة رشدي العامل) وقد فرح بها رشدي فرحاً شديداً، لكنه، مع ذلك ، كان فرحاً لا يخلو من إحساسٍ بالنهاية.
كانت القصيدة مرثية، قاسية، وشديدة النبل لرشدي العامل، أزالت عن أيامه قشرتها الخارجيّة وكشفت عن شحنتها المريرة، التي طالما غطّاها رشدي بفيض من غنائه الشجي، وتفاؤله المشكوك فيه. لقد وضعت هذه القصيدة أمام رشدي العامل، حصاد أيامه، ومكابداته المجيدة:
تكفيك هذي الغرفة الصغيرةْ :
هم لهم الشمس وأفق الماءْ
هم لهم التذاكر ، العواصم ، الأضواءْ
أنت لك العكّأزةُ الخشبْ
تليق بالفتى الذهبْ ..
لم تكن هذه القصيدة، وهي من أجمل ما كتب الشاعر ياسين طه حافظ، كاشفة بطريقة فذّة، عن حياة رشدي العامل، وعذاباته فقط. بل كانت نبوءة شعريّة مفزعة. وكانت رثاء حيّاً للشاعر الذي رحل بعدها، بأشهر قليلة، ليتيح للقصيدة أن تأخذ مداها في الدلالة، وتتشبّع بمحمولها الرثائي. لقد غاب عنا رشدي العامل بعد قصيدة ياسين طه حافظ بفترة قصيرة، مثلما رحل حسين مردان بعد قصيدة فوزي كريم تماماً، وكان كلا الشاعرين يرى في قصيدة صديقه رثاء مبكّراً له، أي أن كليهما قد قرأ مرثيته قبل موته.
كانت قصيدة (الموعظة، أو مسألة رشدي العامل) وداعاً مخيفاً لشاعر أحببنا وقوفه أمام الريح بقنديله الصغير الصافي، وقصائده البيضاء. حقاً، لقد أكبرنا فيه إيمانه الراسخ الذي كان ينضح به جسده، وصمته، وقصائده. وعشقنا فيه ، أيضاً، تساميه على اليأس، والشكوى، والنميمة:
الضياءُ مضى ، والجفافُ أتى الشفتينْ
إنّ رشدي ينامْ :
وجهه بين بابين مفتوحتينْ
وجهه بين مسألتينْ
وجهه شاحبٌ والشموسُ تنامْ
في مدى روحِهِ واليدينْ
كان موت رشدي العامل بعد حرب 1991، أو بعد انتهائها تحديداً. أحسست، لحظتها، أن هذا الشاعر المفعم بعراقيته الصادقة والعنيفة، ما كان يمكنه أن يرى ما بقي من وطنه موزعـاً بين مخالب الذئاب، وخناجر القتلة.