الماغوط : نسرٌ شعريٌّ بمخالبَ منقوعةٍ بالدموع

 
قد يتشابه الشعراء كما تتشابه النجوم أو كثبان الرمل، وهذا ما حدث في الماضي، وما يحدث الآن بشكلٍ جليّ، أما الشعراء الأفذاذ فعصيون على التشابه ولا يمكن تكرارهم بالتأكيد. وسيظلّ محمـد الماغوط واحداً من هؤلاء الشعراء: نسراً شعرياً كاسراً، بمخيلة دامية، ومخالب منقوعة بالدموع. كانت موهبته بدائية، وبرية إلى أقصى حـدّ ، لم تخالطها ثقافة متجهّمة أو مدّعـاة، كما لدى الكثيرين، ولم يسلبها همجيتها العذبة افتعالٌ، أو انكساراتٌ كاذبة.
وما زلت أذكر اللحظة التالية بانفعالٍ خاصً: حين نوديَ على الماغوط ليتسلم جائزة العويس للشعر، ذات أمسية من أماسي آذار 2006، كان شيء ما يتصدع في ترتيب الأشياء: أحسست أن طائراً هائلاً يضرب بجناحيه متاعب آخر العمر، وكرسياً ذا عجلات. وحين استعصى عليه الصعود إلى المنصة أخذ، أو هكذا خيل إليّ، يتضرع إلى بقية من فتوته وفوضاه. وقبل أن يستمرّ جناحاه في عويلهما المكتوم لم يجد إلا طبيبه الشاب وعكازه يقربانه من ذلك الأفق النائي: أعني منصة الحفل. فكرت، لحظتها، أنني أمام مفارقة سوداء تتعاظم في كل لحظة لتشكل نهاية هذا النسر الشعري الجارح.
لم أعد أذكر متى قرأت أول قصيدة للماغوط. غير أنني أذكر جيداً لقاءنا عام 1973. كنت في زيارة إلى دمشق، وكان ديواني الأول (لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء) قد صدر حديثاً في بيروت. كانت إحدى قصائد الديوان مهداة للماغوط. التقينا هناك، وأمضينا سهرة لا تنسى: جبل قاسيون ، والماغوط، وأنا. وعلى مقربة منا كانت دمشق تمتد على سرير من السهر والأغاني. وسط بحر من النجوم والسهر الجميل.
الصورة الشعرية لديه ليست تجميلاً للنص، أو باروكة تنسج من خزين المخيلة، بل هي موقد الاحتراق اللاهب في النص ومصدر الجمال والرعب فيه. والملاحظ أن نصوصه ، رغم غرابتها وما تشتمل عليه من إثارة أو مفاجأة، تعبر عن أكثر الأشياء شيوعاً. كما أن اليومي أو المألوف يقتحم وعينا بعنف من خلال صورة شديدة الغرابة فلا يعود المألوف مألوفاً، ولا اليومي يومياً بل يصبحان، كلاهما، جديدين وصادمين. لذلك فنحن نقف أمام موضوعات الماغوط وقفة المندهش، أو الخائف، أو المتألم.
في صور الماغوط لا أبحث عن المتعة، أو النشوة، أو التجانس، فهو ليس مغنياً، أو هتّافاً، ولا نظّاماً تفتنه الطرافة أو التطريب، بل هو شاعر مسكون بعذاب حقيقي، وإحساس بالحرمان لا حدود له. وهي تيّار من التشبيهات التي تحتدم، وتتصادم، وتشتبك في جريان سريع، هائج:
*
أبكي، ولا ينظر إليّ
يسير حافياً على البلاط العاري
هامساً كالجاسوس
وأوتار ظهره نافرةّ
كأوتار القيثارات
*
لقد آن الأوانْ لتمزيق شيء ما
للإبحار تحت مطرِ حزينٍ حزينْ
لا كمغامرٍ تلفّه سيولٌ من الحقائبِ والأزهارْ
بل كفأرٍ خسيسٍ ، كفأرٍ دامع العينينِ
يستيقظ مذعوراً كلما ناحت إحدى البواخر
وتألقت مصابيحها
كعيون الضباع المبلّلة
*
لا أريد أن أسمع شيئاً
لا المطر ولا الموسيقا
لا صوت الضحية ولا صوت الجلاد
لن أسمع إلا طقطقة القصائد في جيوبي
وارتطام الحقائب على ظهري من مكان إلى مكان
*
آه كم أود أن أكون عبدا حقيقياً
بلا حبٍّ ولا مالٍ ولا وطن
لي ضفيرةٌ في مؤخرة الرأس
وأقراطٌ لامعةٌ في أذنيّ
أعدو وراء القوافل
وأُسرج الجياد في الليالي الممطرة