صديقـان مدهشان ومدينة ٌ جميلةٌ حدّ القسوة

 
خرجت مسرعاً تحت مساءٍ لندنيٍّ كثيفٍ، ومطرٍ أشدَّ كثافة، إلى موقف الباص الذي يقع تحت شقتي تقريباً. طالما ربطني بالباص الأحمر ذي الطابقين تحديداً، حنينٌ خاصٌّ، يشدني إلى أول أيامي في بغداد الخمسينات قادماً من محافظة واسط. كنت، في ذلك المساء اللندنيّ البارد على موعدٍ مع اثنين من أكثر أصدقائي لطفاً. علاء بشير وفاروق يوسف.
حين نزلت من الباص، وجدتهما ينتظران، مع زوجتيهما، على الرصيف الزلق، إذ كان الثلج قد بدأ يهطل بغزارةٍ على الليل وأنفاس المارّة. وفي المطعم، المعروف بأطعمته الشرقية، انتابني إحساسٌ مضاعفٌ بلذة الدفء، فالبرد في الخارج يضاعف من إحساسنا بالدفء، عادة، في تفاصيل المكان الذي نحلّ فيه.
وهم) علاء بشير يجعل الجمال يتألم – شبكة اخبار العراق
كانت لقاءاتي بفاروق يوسف وزوجته سناء لا تنقطع، منذ وصولي لندن. حيث يستقبلاني، في شقتهما، بكرمٍ وأريحية. وكانا يدركان صعوبة العيش بعيداً عن أسرتي، وأنا المعروف بحنيني إلى تفاصيل الحياة البيتية. معجباً كنت بلغة فاروق يوسف التي لا أجد فيها حدوداً بين الشعر وسواه. فما يكتبه، في أيّ موضوعٍ كان، يضعني في حضرة الشعر منذ السطر الأول، وبذلك، وعلى مرّ السنوات، استطاع أن يربّي لغةً خاصَّةً به، لا تمتُّ بصلةٍ إلى أيّ من أبناء جيله. ورغم أن كتاباته تتوزع على الفن التشكيلي، والنقد، والشعر، والسياسة، إلا أنها كانت تغترف من الشعر أجمل ما فيه: الصورة، والإيحاء، وانزياحات التعبير.
في الجلوس إلى علاء بشير، سحرٌ خاصٌّ، يتدفق من هذا الجمع المثير للاهتمام بين حقلين متباعدين: الطبّ، وما يتطلبه من يقظةٍ ذهنيةٍ عاليةٍ، والرسم والنحت، ومناخاتهما العامرة بشطحات الحلم والخيال. ومن يتأمّلْ رسومات الفنان علاء بشير ومنحوتاته الحادة والغرائبية أوالكابوسية الصادمة لن يصدّق أنها نتاج هذا الطبيب وجراح التجميل المرموق، أو هـذه الشخصية المتسمة، إلى حدٍّ بعيد، بالهدوء والشاعرية. كنت أجد فيه دائماً العالِم والفنان والعراقيّ في عجينةٍ شديدة التجانس وبالغة الندرة. كان يأتي إلى لندن من مدينة نوتنكهام، للقاء أصدقائه، وغالباً ما يكون ذلك في فندق هلتون ميترو بولس، في منطقة أجور رود.
في لندن، كان علاء بشير وفاروق يوسف أكثر أصدقائي قرباً مما أنا فيه: وعلى مبعدةٍ منا، ثمة أسماءٌ تتأرجحُ واهنةً على حافة الذاكرة، أمنيةٌ عصيةٌ على النسيان وعلى النوال معاً، ومدينةٌ جميلةٌ حدّ القسوة. إنهما صديقان لا أكفّ عن الحنين الى أحاديثهما المشرقة بالجمال ودفء الصداقة .