قصيدتي تعبيرٌ عما في الحياة من جمالٍ أو نبلٍ أو خيانة

حوار – إعداد: منى حسن

صاحب تجربة شعرية فريدة ظلت تؤتي قطافها لخمسين عاما، وما زالت أوراقها خضراء مثمرة،
عرَّفَ نفسه في سيرة ذاتية أدبية “عاش متنقلا معها سنواتٍ ليست قليلة، بين جمال الذكرى ومشقة العيش، وبين فرح الكتابة ومجد الدفاع عنها”. سارداً “ما شهده من انهيار البلاد على أهلها، ومن شتات مريع عاشه بعمق مرير، مثل معظم العراقيين”.
ومثلما أن لكل تجربة شعرية حقيقية وأصيلة سمات ذاتية واجتماعية وتاريخية تعرف بها، وتحدد ملامحها، كما أن لها أدواتها الفنية والفكرية والتعبيرية التي تمنحها قدرة التصوير الجمالي، وميزة الاختلاف النوعي والمعرفي، مما يؤهلها لتكون تجربة متكاملة الملامح والبناء، ثرية اللغة، تستمد قوة بناءها وأخيلتها من ثقافة واسعة واهتمام كبير بالرمزية، والتجديد، دون إهمال الموروث الثقافي والأسطوري في بناء القصيدة، جاءت تجربة العلاق المتوجة بعدد كبير من الجوائز والدراسات النقدية والبحوث الأكاديمية، والفائزة مؤخرا بجائزة الشيخ زايد للكتاب عن سيرته الذاتية الموسومة بعنوان “إلى أين أيتها القصيدة”، ندية، حافلة بالأسرار والرموز والرؤى، مثقلة بالدمع والفرح معا… ومعانقة الوطن الهادر في قلب شاعرها بحورا من غياب وفقد وشجن.
لا يخفى على المطلع على تجربة العلاق اهتمامه الكبير بعناوين مؤلفاته، التي يحتفي بها، ويوليها عناية خاصة، ويدافع عنها بشراسة، فهي مفتاح قوله، وملخص الفكرة لديه، والعتبة الأهم على الإطلاق في قصائده ودواوينه وكتبه الأدبية والنقدية، بدءا من “لا شيء يحدث… لا أحد يجيء”، الذي أعلن ولادة حرف الشاعر، بكامل حيرته وإنكاره وتشاؤمه، عبر سطوره، مرورا على “تفاحة الضوء” التي ظلت تشد إليها قلبه، تماما كما أضاءت التفاحة عقل نيوتن مغيرة العالم، وليس انتهاء بتساؤله الوجودي الكبير” إلى أين أيتها القصيدة”، الذي أشرعه في وجه حياته الحافلة بالإبداع المتجدد.
حول الشعر والأدب وما تعلق بأسمائهما من رؤى، جاء هذا الحوار:
– ما مدى رضاك عن تجربتك الشعرية،١٩٧٣ – ٢٠٢٣، وما أهم حدث شكل منعطفا مهما فيها؟
-رضا الشاعر عن قصيدته غاية لا تدرك، والشاعر الذي تلقاه راضياً عما يكتب، ومطمئناً الى مسيرته، شاعر يتمتع بسعادة مغشوشة. أما عن الأحداث التي يمكن اعتبارها منعطفات في حياته فليست حدثاً واحداً. قد تبدأ من ديوانه الأول، أو قراءته الأولى أمام جمهور يتلقى القصيدة بإحساس عال.
بالنسبة لي، كثيرة هي المنعطفات: كان سفري لإكمال الدراسة العليا في بريطانيا واحداً منها، ويمكن أن أضيف اليه سفري خارج العراق للتدريس في جامعة صنعاء، ثم جامعة الإمارات. حيث بدأت مع هذه الفترة مرحلة النشر خارج العراق، وهي مرحلة انتشار نسبي مقايسة الى النشر في العراق بظل الحصار والضنك المادي ومنع السفر.
– أهديت ديوانك الأول “لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء”، إلى والدك، فماذا وراء هـذا الإهـداء؟
– كان هـذا الإهداء أقل ما يمكنني عمله إزاء من كان أسطورتي الأولى، كما وصفته في سيرتي الذاتية. فلاحٌ يقرأ ويكتب ويتحدث بلطف. لقد تعلمت منه كيف أنقل خطواتي الوجلة الأولى بين أدغال اللغة، وكيف أتسلق شجرة الكلام غصناً غصناً. وما زال صدى ذلك الإهداء يتردد في نفسي وفي لغتي ، حتى اليوم، وكأنه ميثاقٌ غامضٌ بين أبٍ لا يجافي عذوبة الكلام ورفعته وابنٍ يحلم باللحاق به.
-ماذا خبأت صنعاء في جيوب ذاكرتك؟
-الكثير مما يفرح ويحزن، ومما يعين على الحياة والغربة والكتابة. ولعل أهم وأجمل ما تنتشي به الذاكرة، ذكاء الإنسان اليمني، وتعلقه بالحياة رغم وعورتها بل فداحتها أحياناً، و كذلك شغفه بالشعر والثقافة والتراث وعزة النفس. وفي اليمن تعرفت عن قرب على رموز التجديد الشعري في اليمن: وأول تلك الرموز وأكثرها تأثيراً، الشاعر والمفكر الكبير عبد العزيز المقالح، الذي كان بوابة اليمن المهيبة على حداثة الشعر والأدب والانفتاح على هواء العالم ومتغيراته.
كناقد وأكاديمي، مشتغل على قراءة العديد من الأعمال الإبداعية، إلي أي مدى تستجيب لذائقتك وانطباعاتك مقابل مناهج ونظريات النقد وقوانينه؟
لا بد من الذائقة ، أما ركام المناهج النقدية وحدها فربما تظل ناراً ذات لهب خامد إن لم يتخللها ذوق ورهافة وموهبة ، بدون ذلك ، لا تعدو كونها سلة من المعلومات التي لا تخاطب إلا الذهن، ولا تجد طريقها الى قلب المتلقي .لا توقظ حلماً أو ذكرى، ولا تدعك جرحاً. وهكذا سيبقى النص دون وشائج تربطه بماضينا أو حاضرنا أو ما سيجيء من متاعب أو مسرات.
فازت سيرتك الذاتية، “إلى أين أيتها القصيدة”، مؤخرا بجائزة الشيخ زايد للكتاب، فهل نستطيع نحن العرب كتابة سيرنا بذات الشفافية التي نلمسها في سير الغرب؟ أم يظل هنالك جانب مخفي دوما؟
– لا بد من الإشارة الى نقطتين مهمتين: أولاً، هناك في الكتابة الأدبية، وفي اللغات كلها، فضاء مجازي يوفر على الكاتب كثيراً من الحرج، فيمكنه التعبير عن المقدس أو المحرم أو المسكوت عنه ، بلغة مراوغة ورفيعة الشأن ، ومع ذلك فإن هناك فوارق وتمايزات ثقافية واجتماعية وحضارية، بيننا وبين الغرب، ستظل تفعل فعلها في ما نكتب من سيرة أو شعر أو رواية. فلا يمكننا أن نبلغ ما بلغوه من لغة فضائحية صادمة، قد تخرج بعض ما يكتبونه من خانة الأدب الخلاق تماماً.
-هل تؤيد الاصوات الحداثية التي تنادي بهدم حواجز الشكل بين الأجناس الأدبية ؟
– هناك واقع كتابي نعيشه اليوم ، ولا يمكن نكرانه : يتمثل في انفتاح الأجناس والأنواع الأدبية على بعضها بعضاً. ويتمثل هذا الواقع في اقتراض الشعر من الفنون التشكيلية، والرواية من شعرية القصيدة ، والمسرح من لغة السرد الروائي، ويتم عادة تبادل هذه الشحنات الجمالية والفكرية، لترصين لغة الأداء وتعميق انزياحاتها الفنية والدلالية.
حاول جيل التسعينات من الشعراء الشباب العراقيين ابتكار حالة حداثية خاصة بهم، كيف تقرأ هذه المحاولة؟
-هذه الحالة ، تمثلت في ما أسماه شعراؤها “ قصيدة الشعر”، ربما للتمييز بين القصيدة التي يكتبونها وقصيدة النثر وقصيدة التفعيلة. وللإنصاف كان لهذه التجربة دور مهم في تجديد حيوية القصيد العمودية، والانتقال بها من معجمها التقليدي الى معجم القصيدة الحديثة الذي يقوم على المجاز وانزياحاته الموحية. وصار لهذه القصيدة أنصارها من شعراء القصيدة العربية الشباب. ومن أبرز شعراء هذه القصيدة والداعين اليها عارف الساعدي، وأجود مجبل، ومضر الآلوسي، لكن هذه الحركة لم تعد كما كانت في حماس البدايات، لم تعد حركة جماعية، بل صار لبعضهم قصيدته الخاصة به، كما أن قصيدة البعض منهم بدأت تتعرض للرتابة المعجمية والبلاغية، وتشابه الأصوات. وكنت ألمس ذلك بوضوح في النصوص التي تصلني خلال عملي محكماً في بعض المسابقات الشعرية
-هل ما زال للشعر دور فاعل من منظور كونه حارسا للغة ومجددا فيها، أم أننا نعيش زمن سطوة الرواية؟
– سؤال يتكرر كثيراً في الحوارات الصحفية، وكانت الإجابة تتقارب حيناً، وقد تتشابه في أحيان أخرى . ينطلق هذا السؤال ربما من هيمنة الرواية على المشهد الأدبي، وهي هيمنة ليس كلها ناتجاً أصيلاً عن طبيعة الرواية أو تطورها المعافى. بل ظاهرة طارئة ولدافع قد يكون مؤقتاً. فكثيراً ممن يكتبون الرواية اليوم جاء بهم الى الواجهة: إما موضة كتابة الرواية، أو ما فيها من الجوائز وذيوع الصيت. ولولا ذلك لكان الإقبال على كتابة الرواية ربما أقل جاذبية للكثيرين.
غير أن دوافع كتابة القصيدة ليست ظرفية، في أي عصر من عصور ازدهار الشعر، عدا استثناءات معروفة، لقد كان الشعر وسيظل أكثر فنون التعبير عن الذات حميمية وعراقة، وتظل اللغة الشعرية ذات كاريزما خاصة، فهي سيدة اللغات، وأكثرها رفعة وبهاء. لغة النفس البشرية في غطرستها وفي هشاشتها وفي نبلها العالي أيضاً.
-ما الذي تأخذه على الشعراء العرب اليوم؟
– ثلاث ظواهر شديد الوضوح في الكثير مما يكتب اليوم من شعر: تشابه الأصوات الشعرية ، اللغة التجريدية الناشفة، وضعف الشعرية : تكاد تهزّ ما كان يميز القصيدة العربية، والشعر في اللغات جميعاً، من مخيلة متوقدة، ولغة حميمُية ومفاجئة ، ومن تميز الشخصية الشعرية .
– ما مدى اطلاعك على المشهد الشعري السعودي، وكيف تقرأ مبادرة تسمية العام ٢٠٢٣ عاما للشعر العربي؟
منذ الثمانينات، وشعراء المملكة يسهمون بكفاءة في تعميق المشهد الشعري، وتجديد حيويته. لقد كان الشعراء يقدمون الأسماء المميزة في إبداع القصيدة بشتى تموجاتها، كان هناك دائماً وطوال العقود التي مضت وحتى اليوم، ما ينعش ذاكرتنا ويضيف الجديد الى فضاء اللغة. كان هناك على سبيل المثال، محمد العلي، وعلي الدميني، ومحمد الدميني، محمد الثبيتي، وكان هناك عبد الله الصيخان، ومحمد جبر الحربي، وهناك الآن جاسم الصحيح، ومحمد إبراهيم يعقوب.
– من خلال الحراك الثقافي الهائل في الخليج لا سيما السعودية، والإمارات، هل يمكننا القول إن نظرية المركز والهـامش في المشهد الثقـافي العربي لم تعـد مهيمنة كمـا في السابق ؟

– لم يعد هناك مكان لهذا الوهم، في ظل التحولات العميقة التي أخذت مجراها، في المكان والوعي والثقافة. لقد ظل الموج يتدافع رواحاً ومجيئاً بين المراكز والأطراف منذ الربع الأخير من القرن الماضي دون أن يتريث عند مكان دون آخر.
– يقول ليونارد كوهن: “الشعر هو الدليل على الحياة، وإذا ما كانت حياتك تتوقد جيداً، فالشعر هو الرماد”، فما وقود شعر العـلاق؟
– كل ما تضج به الحياة من جمال أو قبح أو خيانة أو نبل، وكل ما يفترس الحواس، أو يدب تحت الوعي أو في غفلة مني، كما أنه كل ما أحلم به أو أتوهمه، أنا أو سواي ممن يشاركونني العذاب أو الحلم ذاته.
هل يتقـاعـد الشاعر؟
ليس الشعر بمهنة يُعتاش منها أو عليها، بل هو جمال المشقة أو مشقة الجمال، وليس لنا فكاك منه ما دمنا أحياء، كأنّ له سطوة القدر، وحتمية المصير الذي لا يد لنا فيه.
هامش: “ما بين علامتي التنصيص في المقدمة مقتبس ومضمن من أقوال الشاعر علي جعفر العلاق”

مجلة اليمامة