القصيدة كملفوظٍ لغـويٍّ أو قـولٍ شفاهيٍّ

 
هل تحولت قراءة الشعر، أو تلقَّيه، من الشفاهية إلى الكتابة تحولاً كلياً؟ بكلماتٍ أخرى: هل حل القارئ المفرد، المنعزل محل الجمهور المتراصّ والمتزاحم، في التفاعل مع النص الشعري، والاستجابة لنداءاته اللغوية والإيقاعية والرمزية ؟ وهل يمكن لشكل القصيدة، أو هيئتها المرئية على الورق، أن تكون بديلاً لشحنتها الصوتية والتهجّدية وما تختزنه لغتها من نبرات مجّرحة، أو صافية ؟
في التلقي الشفاهي، تتفجر القصيدة ممتزجة بهواء اللحظة الآنيّة وحرارة الأشياء الراهنة حاملة، في ثنايا ضجيجها الصوتيّ، نداءات الشاعر وتوقه وتلعثمه. وفي لحظة كهذه لا تعود القصيدة نصاً فقط، أو ملفوظاً لسانياً مجرداً، بل تصبح جسداً إنسانياً يتفتق عن شحنة وجدانية وحسية كامنة. إنها الجسد، بايماءاته وهمهمته وآنيته، وهو يندفع عبر اللغة مالئاً فجواتها بالتأوّه، وخرسها بالضجيج.
في حالة شفاهية متوهجة كهذه ، تتحول منصة الالقاء، ، فم محموم، أو شفتين نائحتين . أما القاعة، أعني جمهورها المحتشد ، فيتحول إلى حاسة كبرى للسمع، أذُنٍ تستفزها شهوة الإصغاء: يغويها التقاط النأمة، ويطربها حدّ السكر وقوفها عارية منتشية ، في مهبّ الصوت. هذا الصوت الذي يهطل عليها مفعماً بدخان الروح، وتثنيات الجسد دافعاً أمامه أو في ثناياه ، غياب اللغة وحضورها في آن: غيابها كملفوظ مرئيٍّ، وحضورها كانهمار صوتيٍّ.
ومن المفارقات، في واقعة التلقي هذه، أن عناصرها تتعرض إلى خلخلة من نوع ما. إن مرسل النص، في هذه الحالة، لا يعّول إلا على حضوره الفيزيائي، جسدياً وصوتياً: أعني لوعة الجسد ورفيف الصوت. وبذلك فإن فضاء القاعة يظل، هنا ، زئبقياً، وطارئاً، وسيالاً، فهو وسط ملئ بالثقوب. لا يتريث فيه جسد القول الشعريِّ ولا يتبقى منه غير الدويّ أو الهمهمة. أي أن تلقي الشعر، على هذا المستوى، يظّل فعلاً فريداً، وفردياً، وخاطفاً، ولا يمكن استعادته ، على حد تعبير بول رومثور في كتابه (مدخل إلى الشعر الشفاهي)، وهكذا تكون شفاهية التلقي عملية آنية، انفعالية، وسريعة الزوال: ليس في الإمكان محاورتها، أو التشبث بها، أو إدامتها.
ورغم هذا الغلاف الحسي الذي يغلف الواقعة الشفاهية في تلقّي الشعر، ويحدد عناصر إنتاجها فإن النص، كجسد لفظيٍّ، يظل عابراً ولا يمكن الإمساك به. لكن هل يظل الشعر ، كما كان في عهوده الغابرة، سيّد الكلام البشريِّ، وياقوت اللغة ؟ أعني هل سيبقى مستمراً توهّجه الأسطوريُّ على الرغم من أننا نعيش في عصر أخرجنا، منذ زمن، من دائرة الحلم، ودفء الخرافة، وغموض الأساطير؟