كلماتٌ عن أسـتاذي الراحل د. جـلال الخيـاط

 
كان الدكتور جلال الخياط أستاذي وصديقي. أقول ذلك بعمق وألم ؛ عرفته في بداية السبعينات صوتاً نقديا لافتاً للأنظار، حين كنت في تفتحي الأول على الكتابة والنشر، كان هو في بداية تألقه النقدي. وكان كتابه (شعر التكسب عند العرب) أول كتاب قرأته له، ثم جاء كتابه الآخر (الشعر العراقي الحديث: مرحلة وتطور)، إضافة إلى مقالاته وأبحاثه في مجلة الآداب البيروتية. أحسست أن لديه شيئا مختلفاً عما لدى الكثير من زملائه في الجامعة. وحين ألتقيته في المرحلة الجامعية بدا لي وكأنه قادم من بعيد ملوحا لي بصداقة خضراء لا تقبل الذبول. سلمت عليه، لا كطالب يتعرف على أحد أساتذته للمرة الأولى، بل كأنني أستأنف معه حديثاً كان بيننا قبل لحظات.. كان من أكثر أساتذتي قربا إلى نفسي: تلقائيا مثل طفل وصادقا كأنه آخر الخلّص والأوفياء من الأصحاب. لم يشعرني، يوما أن علاقتنا تحكمها الجامعة أو قاعة المحاضرات.
كثيرة هي شمائل جلال الخياط، وكانت له حصة عميقة من كل منها: الثقافة، التواضع ، وعمق الإحساس. الإخلاص في الصداقة، والإخلاص في الواجب، والإخلاص في الحزن أيضا. لم أره يوما إلا وكانت عيناه كسماءين توقفتا عن المطر قبل لحظات. أية روح فياضة بالحنين والألم وحس الدعابة معاً . لكن مرحه كان من نمط خاص: متألما وشديد التهذيب .
كلما رأيته أحسست، بعمق، أنه شاعر على طريقته الخاصة، لا يطيل المكوث أمام الأشياء أو الموضوعات أو التفاصيل، بل كان يمر عليها بعذوبة وخفة، كما يمر الطائر، أو قطرة المطر. لا يبلغ به المرح حد الضحك أو القهقهة، ولا يدفعه إحساسه بالحزن إلى التجهم أو ثقل الظل.
لقيني، ذات يوم في بداية السبعينات، وأنا على وشك الدخول إلى إحدى القاعات في الجامعة المستنصرية ؛ همس ببضع كلماتٍ ومضى إلى طلابه هادئاً كعادته. لم استوعب تماماً ما قال ، فقد بدت كلماته، بالنسبة لي، غامضة أو غير قابلة للتصديق. كان يعتذر لأنه يتبسط في معلوماته للطلبة، طالباً مني أن أوفر عليه الإحساس بالحرج؛ وأن اترك المحاضرة إلى ما هو أجمل: نادي الطلبة، أو حديقة الكلية، أو كتابة قصيدة جديدة. كان يدرّسنا مساق الأدب الحديث حينذاك كما أذكر. وفي الوقت الذي كان يكلف فيه الطلبة بكتابة البحوث، كان يطلب إليّ بدلا من ذلك أن أنشر، في إحدى الصفحات الثقافية، تحليلاً لقصيدةٍ أو قصةٍ قصيرةٍ أو مسرحية.
بعد سنوات ، كنا في مطار عمّان، وكان التدافع شديداً عند بوابة الدخول إلى الطائرة المتّجهة إلى لندن. كان ذلك عام 1999. أربكتني المفاجأة حينما رأيت جلال الخياط عن بعد، كان برفقة سيدة تعتني به عناية بالغة. وحين مر بي دون أن يعرفني ساورني الشك: أهو جلال الخياط حقاً؟ هل غيَّرنا الزمن ولعبت بنا سنوات الغربة والضنك إلى هذا الحد؟ ولم تهدأ شكوكي إلا بعد أن نادته تلك السيدة باسمه المجرد، طالبة إليه التوجّه إلى الطائرة.
كان لقاؤنا هذا بعد غياب امتد لأكثر من عشر سنوات تقريباً: كنت قد غادرت ، عام 1991، إلى اليمن للعمل في جامعة صنعاء بينما بقي هو في بغداد يرقب أيامه الخانقة تمرّ تباعاً، كأيَّ مثقف ناصع الضمير ومرهف الذاكرة، كان يتعذب ويذوي في كل لحظة من لحظات ذلك الزمن العراقي المرير.
حاولت اللحاق به، وحين سلمت عليه وسط ذلك الزحام، لم يكن أيّ منا يصدّق أن لقاء وجدانياً كهذا يمكن أن يتم بهذه المصادفة العجيبة. كانت معه شقيقته سناء، التي جاءت إلى عمّان لاصطحابه إلى لندن حيث تقيم منذ سنوات. وبينما كنا نتجه إلى مقاعدنا في الطائرة كنت أفكر: كيف يمكننا أن نطيل من عمر هذا اللقاء المفاجئ؟ كيف يمكنني أن أتبادل الأمكنة مع الراكب الذي سيشاركهما أحد المقاعد الثلاثة ؟ حين أرشدتنا المضيفة إلى أماكننا كانت المصادفة في ذروة جمالها: لقد كنا، جلال وشقيقته وأنا، قد حجزنا أماكننا متجاورين دون أن ندري.
امتدت أحاديثنا من سماء عمان حتى لندن: عن أيام لن تتكرر أو جراح لن تهدأ. كان جلال الخياط قد بدأ، ومنذ تحليق الطائرة، يمارس طقوسه المعتادة بشراهة محببة، وكأنه يحاول التشبث بما بقي له من أيام قبل أن تفلت من بين أصابعه.
وبعد أسبوع من وصولنا إلى لندن التقيته للمرة الأخيرة. كان معي فوزي كريم ، وكان جلال قد أصر على دعوتنا إلى غداء عراقي في بيت شقيقته. أحسست في ذلك اللقاء أنه قد فقد الكثير من بشاشة روحه وحيويتها، هناك شئ ما ، يشبه النعاس أو حلم اليقظة، كان يأخذه منا بين فترة وأخرى، يأخذه إلى أعماقه المجروحة أو ذكرياته التي ما تزال حارة رغم رماد أيامه الراهنة.
وفي صيف 2003 حاولت لقاء الأستاذ جلال الخياط مرة أخرى فلم أفلح. قبل مغادرتي لندن بيوم واحد جاءني صوته حميماً كعادته، لكنه كان خافتاً وحزيناً، أحسست فيه مشاعر الصداقة ذاتها، لكنني أحسست، أيضا، وكأنه كان يلوّح لي تلويحة الوداع الأخير.