علي جعفر العـلاق/ إلى أين أيتها القصيدة..؟ سيرة الشعر وسيرة الشاعر

الدكتور ضياء خضير
تحت هذا العنوان ، نشر الناقد الصديق د. ضياء خضير دراسة عميقة، في العدد 37 من مجلة الأديب العراقي. شكراً له على تحليله القيـّم والجميل ، وللقائمين على المجلة شكري وتقديري ..
– سيرة ذاتية مزدوجة:
يبدو السؤال الذي طرحه الناقد المغربي عبد اللطيف الوراري ضرورياً، وهو يتحدث عن هذه السيرة المزدوجة، حول معنى أن يكتب شاعر مثل علي جعفر العلاق سيرته الذاتية، ما دام بإمكان شعره نفسه أن يقوم بمثل هذه المهمة، إذا نحن تتبعنا سيرة الشاعر وسيرة القصيدة في هذا الكتاب الذي جعل السؤال حول مصير القصيدة ومآلها النهائي في صدر عنوانه.
غير أن ما نقرأه في هذه السيرة ليس مسار القصيدة وسيرة صاحبها التقليدية وحدهما، ولا تطابقها أو اختلافها في هذه السيرة، بل مسار حياة إنسانية موازية، ارتبطت بهذه القصيدة نوعا من الارتباط، مثلما ارتبطت القصيدة ذاتها بهذه الحياة إيقاعا وأسلوبا، وبحثا ذاتيا مؤلما عن منفذ للهواء والضوء.
الكتاب يمثل ذاكرةً حيّة لقصيدة علي جعفر العلاق، ذاكرة شديدة الوعي بنفسها وبوضع صاحبها البشري، وحرصه على تسجيل كل الذبذبات المحيطة ببيضة النص، والصادرة عنه وهو يتخلّق وينمو. ولذلك، فهو تسجيل متأنٍ لتطور الشاعر الفكري والفني والروحي وانعكاسه في القصيدة. ومن شأن ذلك أن يمنح الناقد والباحث فكرة إضافية عن مدى الارتباط بين الذاتي الخاص، والموضوعي العام داخل بنية هذه القصيدة، وعلى نحو لا تكون فيه الكلمات تعبيرا اعتباطيا ينطوي على لغة وموسيقى دون محتوى فيه حدث أو موقف وسبب ومحفّز واستجابة. فهو، أعني الكتاب بمجمله، بيان ضروري تساعد قراءتُه ومعرفة كيفية ارتباط القصيدة فيه بسياقها المكاني والزماني، وتعبيرها عنه، على فهم هذه القصيدة وتمثّلها بطريقة أفضل. مع العلم أن طبيعة الارتباط بين الصوت والمعنى، وموقع الصورة في لغة هذه القصيدة، يبدو أكثر تعقيدا من أن يُردّ إلى جانب واحد من جوانب هذه الاستجابة التي تتخذ شكلا إبداعيًا وليس تاريخيا أو اجتماعيًا محددًا.
– الشعراء وأنصاف الشعراء :
والاستعارة التي تقوم في هذه القصيدة على أساس علاقة المشابهة، والكناية التي تقوم على علاقة المجاورة، أو هي أن تترك الشيء وتأتي إلى تاليه وردفه في الوجود، حسب تعبير الجرجاني، وغير ذلك من مظاهر بلاغية تشيع في خطاب علي جعفر العلاق الشعري، تبقى في صورتها العامة طبيعيةً بعيدة عن الافتعال والتصنّع، مع ما يكمن وراءها من وعي وجهد ومعرفة وخبرة مهنية بفن القول شعره ونثره؛ وليس لأنصاف الشعراء والمثقفين قدرة على فهمها كما ينبغي، كما في هذا النص المكتوب عن أحد الشهداء تحت عنوان (زفاف علوان الحويزي)، كان الشاعر قد قرأه خلال سنوات الحرب مع نص آخر في إحدى المناسبات “التعبوية” حسب تعبيره:
” كلما انتشر الصبح بين القصبْ
فتح الهورُ قمصانه للندى، ومواقده لأنين الحطبْ
قهوةٌ مرةٌ، ورمادٌ أليفٌ، وشمسٌ مبللةٌ بالذهب”
أما النص الثاني، فهو التالي:
“غرفٌ لأحبابي القصيدةُ، والسريرُ لهم ردائيْ
أُدني لوحشتهم دمي، ولخيلهم قلقي ومائيْ
قمرُ الترابِ يضيءُ أوجههم
ويمزج بالدماءِ
لونَ القصائدِ والعصافيرِ القتيلةِ والنساءِ”
هذان المقطعان الشعريان القصيران، اللذان يختلفان عن المعلقات الشعرية ذات الطبيعة الخطابية المدوية خلال سنوات الجمر تلك، لا يمكن أن يرضيا المشرفين على مثل هذه الأجواء الاحتفالية المحتدمة في عواطفها، وفي كمية النفاق المفهوم، والتزلّف الضروري، الموجودين في كثير منها.
وما يهمنا هنا هو بيان الكيفية التي تتركب فيها الجملة الشعرية في المقطع الثاني، على سبيل المثال، وطبيعتها البلاغية المفارقة، والطريقة التي يأتلف فيها الكلام المستعار، أو يختلف في الجمع بين القصيدة وغرف الأحباب، السرير والرداء، الوحشة والدماء، الخيل والقلق، وقمر التراب ولون القصائد والعصافير.. إلخ
إذ لا يبدو أن لكل هذه الثنائيات علاقة وثيقة ببعضها، مع أنها تؤلف داخل هذا المقطع الشعري عالما ساحرا من الصور البيانية المتباينة، التي من شأنها أن تخلط الأشياء المادية والدلالات المعنوية ببعضها، وتجعل الغريب منها أليفا، والبعيد قريبا. فنكون إزاء صور وتعبيرات من هذا النوع في موضع نجد أنفسنا مجبرين فيه على الحديث عن شكل المعنى، وما يتصل به من تغيير في العلاقة بين الكلمات والأشياء، أكثر من حديثنا عن المعنى في ذاته. وهو ما يدخل في ضرب من ضروب الاستعارة، يقول عنه الجرجاني في (أسرار البلاغة) إن معنى الاستعارة فيه موجود في المستعار له من حيث عموم جنسه..” فأنت تستعير لفظ الأفضل لما هو دونه ومثاله، كاستعارة الطيران لغير ذي الجناح إذا أردتَ السرعة، وانقضاض الكواكب للفرس إذا أسرع في حركته من علوّ، والسباحة له إذا عدا عدْواً كان حاله فيه كحالة السابح في الماء”.
ومعروف لنا، كما يضيف الجرجاني، “أن الطيران والانقضاض والسباحة والعدو كلُّها جنسٌ واحدٌ من حيث الحركة على الإطلاق، إلا أنهم نظروا إلى خصائص الأجسام في حركتها، فأفردوا حركة كلّ نوع منها باسم، ثم إذا وجدوا في الشيء في بعض الأحوال شبها في حركة من غير جنسه استعاروا له العبارة من ذلك”. (أنظر، عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، بيروت، 1988، ص 41)
وقد يكون كلُّ ذلك من البديهيات البلاغية والبيانية التي لا تحتاج إلى فضل بيان وشرح، لولا أن اضطرار الشاعر إلى قراءة مثل هذا الشعر في مناسبات من ذلك النوع تُبقي مثل هذا الشعر غيرَ مفهوم، مع أنه قد يكون أعمقَ تعبيرا، وأكثر قدرة على الوفاء بمتطلبات ذلك الموقف ذي الطبيعة التراجيدية الحزينة. خصوصًا إذا عرفنا أن نص علي جعفر العلاق يقوم، على قِصِره النسبي، على التنويع في التفاصل والتغيير في البؤرة الدلالية، واجتراح صور جديدة قد لا يخلو تمثّلها واستيعابها من قبل القارئ من تعقيد وصعوبة؛ مع الشعور بأن ذلك لا يعيب القصيدة أو يفرّط في وحدتها الدلالية المؤسسة على محاكاة الواقع ومجافاة تقليده والخضوع لما ينطوي عليه من مفارقات، في الوقت نفسه؛ وما يتطلبه ذلك من قراءة مزدوجة تستبعد ما يسميه مايكل ريفاتير بالمغالطة المرجعية referential fallacy، التي تقوم على استرجاع أو استحضار بعض من أمثلة تقليدية سابقة على هذه المحاكاة. و”مهما كانت وسيلةُ تحقّقنا من دقة المحاكاة في النص بمقارنته بكتابات أخرى عن الموضوع، فلن يغيب عنا أن هذا النص يحرّف الواقع بشكل منسّق، أو على الأقل يمكننا القول بأن النص يُؤثر التفاصيل التي تثير تداعيات تقترن كلها بمفهوم واحد..”. (أنظر، مقال ريفاتير، سيميوطيقا الشعر، دلالة القصيدة، ترجمة فريال جبوري غزول، ضمن كتاب أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، بيروت، 2014، ص 255)
– خيط المذكرات الأحمر :
ومثلما وعد كازانتزاكي في (تقرير إلى غريكو) قارئه أن يجدَ في صفحات مذكراته الأثرَ الأحمر الذي خلّفته مع قطرات دمه رحلتُه بين الناس والعواطف والأفكار، فإن علي جعفر العلاق يتيح لهذا القارئ، هو الآخر، أن يتتبع عبرَ صوته الشعري والنثري الممتزجين بعمق في كتابة هذه السيرة، الخيطَ الأحمر، أو الأخضر، الملون بلون حمرة شفق الحاجة وشظف العيش وصعوبة الحياة في تلك الأيام، وخضرة الحقول في قريته الصغيرة ومياه أنهارها وسواقيها الأولى.
ولئن كانت جهود المؤلف اليوناني في سيرته تلك موظفة للوصول إلى ما يسميه “القمة الكريتية”، التي كان يصعد إليها وهو يحمل صليبه لدى بلوغ شمسه لحظة المغيب، فإن قمة علي جعفر العلاق تبقى هي تلك القرية الأولى في واسط الكوت بتناقضاتها وقيمها وبؤس حياة عموم الناس فيها؛ وهي، مثل قرية السياب في أبي الخصيب، مكانٌ خيالي غيرُ موجود خارج رأس الشاعر، وفضاء قصيدته نفسها. ولذلك لا نجد غريبا أن مسار زمن هذه القصيدة السردي يبدو كما لوكان يتراجع باستمرار نحو قاع تلك الطفولة الخضراء، حتى آخر عنقود معلق في سمائها، أو قمر غارق في بئرها ومخيلتها الأولى المزروعة بثمار وأزهار لا حدّ لغناها وتنوعها.
ولغة هذه القصيدة وصورها المتوالية، والمتدفقة مثل مياه السواقي الصغيرة في قريته لا تتقدم إلى الأمام إلّا لتتراجع إلى الوراء، أو لتلتف على نفسها في حركة لولبية مثل “خورة” سدة الكوت التي تسمح لنا، نحن أبناء الجنوب، أن نلتقط لدى مرورنا عليها بالسيارة بعضَ حركتها، ونرى إلى أسماكها وصورها المائية السوداء، وهي تتقافز مع التيار الخارج من فتحات بواباتها المندفعة مع مجرى النهر المتجه إلى المدينة. وكأن لذاكرة القصيدة في شكلها التراجعي هذا علاقة بنظرة أفلاطون للمعرفة بوصفها تذكّرا واستعادة، أو إدراكًا غامضا للجديد باعتباره شيئا يعود إلى أصل، يتماهى مع شيئ قديم سابق الوجود؛ مع أن الأمر لا يتعلق في هذا النوع من الشعر بفلسفة مثالية، أو غير مثالية، بل بحياة عملية نشأت وشقّتْ طريقها بين الماء والأكواخ الطينية، وصنعت لها تاريخا من العناد والشخصية الشعرية المستقلة.
– قرية الشاعر ومنزله الأول :
لقد طلع علي جعفر العلاق من قريته الجنوبية مثلما تطلع النباتات البرية وعاقولُ الأراضي البور، وظل مرتبطا بها ارتباطا صميما لم تزدْه حضارةُ المدينة الجديدة وثقافتها المكتسبة، وتنقلاته الواسعة في المكان والزمان وعالم الثقافة إلا إصرارا على العودة لحسّ البداهة ومشاعر البراءة الأولى. فظلت هي المنزلَ الأول والوطن الذي لم يملَّ الشاعر من الإقامة فيه والعودة إليه المرةَ بعد المرة على صعيد الواقع والخيال. فيما جهزته مرحلةُ الطفولة الخالدة تلك في هذا الوطن بعالم مثالي حرص فيه على الحفاظ على نبل الموقف والكبرياء والكرامة الإنسانية، التي واجه بها العالم المادي الصلب بقلب من الذهب، أو من كلمات، دخل فيها وبسببها في معارك متواصلة، غير متكافئة، لم تنقذْه منها غيرُ قصيدته، أو كلماته نفسها. وعشقه للريف والطبيعة الحرة، أينما وجد نفسه بعيدا عن قريته، في بغداد، أو أكستر البريطانية، أو صنعاء اليمنية، أو مدينة العين الإماراتية، أو بولو التركية حيث محطته الأخيرة، هو، في الواقع، امتداد لذلك العشق والانتماء الأول، الذي لا شكّ فيه ولا برء منه.
والماء الذي بقيَ يشكّل بالنسبة للشاعر “لغة” ثابتة في طراوتها، حينما “اخشوشن الآخرون”، ويملأ صفحة أحلام طفولته بالطين والصراخ، ويشدّه إليه ب “رابطة خاصة.. أو قوة خفية لا تدخل دائرة الإدراك أبدًا، بل تظل هناك في الجذر، أو في قاع البئر، أو ظلمة الوعي، لتشكّل جزءا من شخصيتي واتجاهات سلوكي، ربما”؛ هذا الماء هو الذي يحتل موقعَ المركز في قصيدته الرعوية اللامعة، ويتوسطها ليوزع عليها النسغَ الذي يغذي أغصانها وأوراقها، ويهبها نضارة الحياة وفتنتها. وهو، مثل النسغ أيضا، “ماءٌ صامت، كئيب، وراقد، يتعذّر سبرُه” حسب تعبير باشلار، الذي يضيف إلى ذلك أنه ” مادة للموت الفتيّ والجميل والمزهر”، تماما كما هو في سيرة علي جعفر العلاق وحكاياته مع هذا الماء حين “يفيض النهر ويأخذ البيوت والأطفال، وكنتُ أوشك أن أكون واحدا من أولئك الأطفال الغرقى”.
ومثل ما يحدث مع باشلار في (الماء والأحلام) تقود قصيدةُ الشاعر قارئها في رحلة سحرية ينتقل فيها بين حافات الشطآن والفيضانات والسقوف المثقوبة بماء المطر في أكواخ الريف وبيوت المدينة العارية، مرورا بكل الأحلام والصور الممكنة في وقائع هذا العالم وحكاياته المظلمة والمضيئة، وأساطيره الكئيبة والمفرحة. والقصيدة لا تكتسب بذلك بعدًا جماليًا مفردا، بل آخر روحيًا بوصفها تعبيرًا عن طبيعة غير قادرة على التعبير والإعلان عن نفسها، ووجودها بغير هذه الطريقة.
– الأسطورة في الشعر :
وحين نتحدث عن “الأسطورة” في شعر علي جعفر العلاق، فإننا لا نقصد شيئا محددا يمكن متابعته والوقوف على حدوده، كما يحدث في الأمثولة الرمزية الإلغورية، على سبيل المثال، بل شيئا يشبه ما كان ليڤي شتراوس يسميه بالترقيع bricolage، أي الجمع بين كِسَر وقطع متناثرة من كل ما يقع تحت يد الشاعر ليسلكه، على تناقضه واختلاف عناصره وتباينها، في نظام يؤلف بين الطبيعة والثقافة، ويحلّ التعارض القائم بين طفولة الشاعر الحالمة، وثقافته المدينية وحقائقها الواقعية الموجعة.
لا يتوفر في قصيدة عربية حديثة أخرى غير قصيدة علي جعفر العلاق، على ما أظن، كلُّ هذا الدفق الحيّ من الصور الشعرية الحرة التي تطوّق القصيدة، وتنتشر حول جسدها مثل غيمة سماوية، بالونات ملونة وقطرات مطر، أو فراشات ونجوم وإيقاعات قد لا تنطوي في نفسها على معان ودلالات معيّنة، ومشاهد حياة وعلاقات أو شخصيات إلا بقدر ما يكشف عنه ضوءُ البرق الخاطف أمام البصر المندهش من رؤى ومشاهد أرضية عابرة. صور مأخوذة بعين طائر محلّق من مسافة زمنية ونفسية وجغرافية تجعلها، وهي القريبة من النفس والحسّ، بعيدةً نائية بُعدَ الحلم والذكرى غير القابلين لأن يُمسّا.
ربما نستثني من ذلك شاعرًا مثل محمد الماغوط، الذي قد لا يكون أمرًا اعتباطيا أن يتعلق علي جعفر العلاق بشعره منذ بداياته المبكرة، ويهديه إحدى قصائد ديوانه الأول. فقصائد الماغوط مثل قصائد علي جعفر العلاق “كانت بدائية وبرّيّة إلى أقصى حد، لم تخالطها ثقافة متجهّمة، أو مدّعاة، ولم يسلبها همجيتها العذْبة افتعالٌ أو انكسارات كاذبة”، كما يقول.
وقد نحتْ لغةُ علي جعفر العلاق منذ البدء هذا المنحى في مجمل شعره، فلم تتمسك، كما ذكرنا، بأهداب بلاغة مدعاة، ولم تفتعل صناعة الصورة من أجل تعليقها عنوةً بأذيال القصيدة. وهي تكشف عن ذات تحررت من الضغوط الفكرية والآيديولوجية، لتحتكم إلى صفاء إحساسها، وتركن إلى طبيعتها العفوية والأخلاقية الواعية إلى الحد الذي صرنا مع مرور الوقت وتنوع القراءات قادرين على التعرف إليها والإحساس بها، مثلما يجري التعرف على ألوان الزهور ورائحتها، وطيور الماء وخفق أجنحتها.
– صورة الأب الشخصية وصورة الابن :
وصورة وصفية لشخصية مثل تلك الموضوعة في مقطع صغير لشخصية الأب الراحل، الذي يمثل أسطورةَ الشاعر ومثلَه الأعلى في الحياة والشعر، لا تتبدى بغير مجموعة من الضربات الخاطفة ترسمها فرشاةُ رسام يعرف أن يجمع في فضاء اللوحة بعضا من اللوازم الريفية الضرورية التي تقترن بفلاح عراقي مثله، ولكنه بقي رغم تخفّفه منها، وتخليه عنها، محتفظا بدلالات اسمه نقيةً في مخيلة الابن، وذاكرة أبناء قريته:
لا فأس ..
لا ملعقةٌ من ذهبٍ..
لا رمح في كفيهْ..
لا خِنجرٌ يضئ، لا مسدسٌ..
لا شيء أنقى من دلالات اسمهِ..
لا شئَ أقسى من حصى يديهْ..
وفي صفحة لاحقة من الكتاب نعثر على تفسير لهذا المقطع:
“كان لنشأتي في أسرة ريفية على مقربة من الفقر الكريم، وعلى تماسّ كبير من المثل الروحية، أثر كبير على سلوكي القادم. شيء طالما أثار انتباهي وأنا في غمرة عبثي البرئ مع أقراني: لماذا لا يحمل أبي ، كما يفعل بعض الفلاحين، سلاحا؟ لم أره، مثلا، يتحزم بخنجر، أو مسدس أو بندقية..، ومع الزمن تسلّل إلى وعيي أن من يدعي الانتماء إلى أرومة يجلها الناس، أي كان من (السادة) كما يسميهم القرويون عادة لا يجد مهابته في حمل السلاح أو التباهي بما يملك، بل في ما يتحلّى به من سلوك قويم”.
غير أن ذلك لا يجعل مثل هذه القصيدة، أو هذا المقطع المقتطف منها هامشا مفسّرا لحال من هذا النوع، أللهمّ إلّا بالقدر الذي يجعل الرموز والعلامات السيميائية الموجودة في لوحة حديثة مرسومة لمقطع من مقاطع حياة مرصودة في الريف أو المدينة صورةً تشبه تلك التي نراها في مرآة مستوية مطابقة للمنظر الذي أمامها. إذ أننا نبقى في فضاء هذه القصيدة أمام غموض ومفاجآت قد لا توجد في الواقع، بل في صورته داخل هذه المرآة. وهي مرآة مركّبة تظهر جانبا من الصورة، لتضمر جانبا آخر أكثر إغراءً بالقراءة والتأمّل والنظر، ليكون شبيهًا بالمضنون به على غير أهله؛ مع أنه لا ينطوي على ظاهر معلن وباطن مضمر على طريقة المتصوفة أو الشعراء الرمزيين. فالقصيدة تبقى بما هي، وبظاهر القول المعلن فيها، لا بما تريد أن تقول من معنى ودلالة مخاتلة.
والمهم أن موت الأب، الذي حوّل هذا الصبي فجأة إلى “شيخ أحدب الظهر”، قد شكّل “منعطفا في حياة كاملة، تغييرا يكاد يكون تاما لتاريخ من عبث الطفولة، واندفاعاتها البريئة. أحسستُ، بعد موته، كأنني قد هرمت فجأة. صبيٌّ يصعد إلى تلال أيامه، ليستعجل كهولةً بعيدة، أو حكمة لم يحن أوانُها بعد، أو يستبعد حماقات لا حصر لها”
إنها لحظة فارقة، مفاجئة، وغير متوقعة في حياة الطفل. لحظة أسف وحزن وشعور باليتم والخسارة دون أدنى شك؛ ولكنها، في الوقت نفسه، لحظةُ نضج وخروج من مرحلة إلى أخرى؛ من مرحلة الطفولة والصبا الحالمة إلى عالم الرجولة وحقائق الحياة الصادمة، وما يرتبط بها من شعور بالمسؤولية نحو الذات والعائلة والمجتمع الكبير؛ وربما هي أيضا لحظةُ شعور خفي بشيء من الاستقلال والتحرر من مراقبة الأب الصارم وحبه القاسي لطفله الغالي.
لقد كان هذا الطفل يرى مثاله وصورته المكتملة في أبيه، الذي يملأ عليه أقطار نفسه، فيما كان الأب يرى في طفله صورتَه الأخرى غير القابلة للخروج عن تقاليد العائلة وشرفها وقيم (السادة) المتوارثة فيها.
ويدُ ذلك الطفل التي نسيت دفئها في المقطع الشعري التالي، والسماء التي تحولت في تلك اللحظة إلى حصى، هي، في الواقع، تعبيرات وصور عن مشاعر مختلطة، متضاربة، تبدو فيها اللغةُ عاجزةً عن تحديد الدلالة، أو سلوك طريقة أخرى غير هذه للكشف عن مدى ذهولها وقلة حيلتها في حال ملتبسة ومحيّرة من هذا النوع. ونحن نعرف الكيفية التي كان شيلنغ يقول فيها إن الفن الحقيقي يبدأ حينما تُفتقد المعرفة. ولحظة شعور الذات غير الواعية بذاتها لأول مرة، وبأنها كفّت، وهي تبدأ صعودها الموحش نحو تلال تلك الأيام، عن أن تكون مجرد ظل لشخص آخر، هي واحدة من تلك اللحظات، حتى إذا كان الشخص المعنيّ هو الأب والمثال الأول نفسه، لتكون هذه الذات أمام شخصها أو ذاتها الجديدة المكتشفة، التي احتوت الأب، ولكنها لم تعد هي إياه، منذ لحظة الموت والغياب الفاصلة تلك.
“حينما ماتَ ..
لم يجدني حزينا في جوار فراشهِ..
كنتُ شيخا أحدبَ الظهر ينحني عند قبرٍ
عضّني البردُ فجأة، واقشعرّتْ
رئةُ الأرض، هل غـدا كل شيءٍ
من يتامى ومن بكاءْ..؟
نسيت دفئها يدِيْ
أم حصى كانت السماءْ..؟ “