الناقد وسـوء النية

لا أنظر إلى النقد الأدبي نظرة تضعه في خطّ تراتبيّ أدنى من الإبداع، فالنقد والإبداع في اعتقادي، وقد يخالفني فيه الكثيرون، يشربان كلاهما من النبع ذاته ثم يحلقان، في اللحظة التالية، كلٌّ في اتجاه خاصّ به، ليصنع كلّ منهما ما يميزه باعتباره إما شهادةً على العالم أو شهادةً على النصوص. وليس النقد كلاماً ثانيا على كلامٍ أول، أوكلاماً تابعا لكلامٍ آخر يقوم مقام الأصل دائما، بل هو نفسه كلامٌ أول له نشوة المبادرة، وله لذة الزهو بالذات. له تجلياته وله جمالياته التي تجعل منه، بمعنىً من المعاني، فعلا إبداعيا على مستوى الأداء على الأقل.
صحيح أن الكثير من قيمة النقد يتجلّى في بعده المعرفيّ وفي مستوى ما ينتجه من تحليلٍ ألمعيّ للنصوص ، غيرأنه يتجلى، أيضا وبدرجة كبيرة، في سماحته ومحبته ورهافته الكبرى، وهي مفرداتٌ لا أجـد لها إلا حضورا شبحيا في البعـض ممّا ينتج تحت هذا العنوان الفضفاض وحمّال الأوجه المتشابكة والمتضادة. فقد تحوّل البعض من نقادنا، اليوم، إلى آلاتٍ مدرّعةٍ فائقة التقنية، حتى صارت لأرواحهم صلادة المعدن ورنين الصفيح الفارغ، بعد أن تمّ تجفيف المياه الجوفية لتلك النفوس، وخلت معظم كتاباتهم من تلك البطانة الروحية الوثيرة الدافئة، وذلك التزاوج الحميم بين التقانة العالية وما تحفل به الروح من معاشرةٍ سمحةٍ للأشياء والنصوص والكائنات.
والنقد الأدبيّ ليس ردة فعل خالصة، بداية وختاما، على فعلٍ إبداعيٍّ ما. إن نقدا كهـذا لا نمنحه هذه الصفة بضمير مستقر لأنه مشوبٌ، دائما، بشبهة الافتقار إلى قوة ذاتيةٍ خلاقة، وشبهة الاتكاء على حافز خارجيٍّ، يساعده على التحقق. لكن ما يعتري النقد أحيانا، أنه قابلٌ للانقلاب على مرتكزاته، التي أرستها عقولٌ خصبةٌ وموهوبة، ليغدو، في لحظاتٍ نفسيةٍ وأدبيةٍ زلقة، وكأنه مهنةٌ متاحةٌ للعابرين في طريق الكتابة جميعا، أو للعائدين من البحر وليس في شباكهم غير الريح وبقايا الزبد.
وهكذا تكون الطريق، إلى سوء النية، مفتوحةً على مصراعيها أمام الناقد المغرض كي يفصح عما تدّخره روحه الجيّاشة بالمشاعر السلبية إزاء النصّ الذي ينصرف إلى معالجته، وإزاء صاحب النصّ بعبارةٍ أدق. الناقـد المغرض قد يجد في النصّ فرصةً نادرةً ، أحيانا، لتصفية حسابٍ ما والتنفيس عن عقدةٍ كامنة.
وللناقد المغرض، كنانته الملأى بالسهام المنقوعة في حبرٍ مسموم، فهو قد يجرّ قصيدتك إلى خارج شمائلها كالذبيحة، ليأخذها خارج ما يحقق شعريتها، وبعيدا عما يجعل منها نسيجا روحيا ولغويا خاصا بك. فإذا كنت شاعرا يُعنى باليوميّ من ملفوظ اللغة، مثلا، فسيبحث هذا الناقد بخبث مبيّت عن حاجة قصيدتك إلى لغةٍ مجازيةٍ مشبوبة. أما إذا كنت لا تشتغل، في الغالب، إلا على صعيد المجاز وانزياحاته المفاجئة فسيتجه، منسجماً مع قدْرٍ من الجهل أو اللؤم أو الافتقار إلى الموهبة، إلى التنقيب عما ليس من خصائصك الشعرية التي تميزك عن سواك، إلى البحث عما استبعدته أنت، عن وعيٍ ودرايةٍ ، من مجمل عالمك الشعريّ ومكوناته اللغوية والنفسية.
وأمام قصيدتك أنت بالذات، قد يتحول، وهو ناقدٌ وصفيٌّ أساسا، إلى ناقدٍ معياريٍّ يسرف في أحكامه ويبالغ في وصاياه المدرسية، لأن الحكم أو المعيار وليس الوصف، هو المسلك النقديُّ الذي قد يشفي نفسه من منسوب غيظها المرتفع أو عدم رضاها، والذي يحررها ربما من مشاعرها السلبية الحبيسة. وهكذا قـد يكون النقـد الأدبيّ، أحيانا، أكثر صنوف الكتابة احتمالاً لسوء النية.