محسـن إطيمـش ، ناقـدٌ من طرازٍ خاصّ

محسـن إطيمـش ، ناقـدٌ من طرازٍ خاصّ
مثل خيط من اللهب الصافي حين يعتريه الكدر فجأة، أو كما يكفّ نهر شرس عن مواصلة مجراه. هكذا كنت أنظر، وما أزال، إلى الشاعر والناقد الراحل محسن اطيمـش وحياته القصيرة. غادرنا قبل الأوان، دون أن يترك لنا فرصة لنهيئ أنفسنا لرحيل فاجع كرحيله. كان واحداً من جيل الستينات، ومع أنه لم يكن محسوباً عليه تماماً؛ فقد حمل أفضل شمائل هذا الجيل تاركا، خارج ذاكرته الثقافية وسلوكه الإنساني ، الكثير من ادعاءات بعض الستينيين أو نرجسيتهم .
كان يشدني إلى قصائده ما فيها من انكسار حميم، ونبرة شجّية، كما أن انضباطها الدلالي ،الغائم أحياناً، يمتع ويثري تجربة التلقي . وكانت تلك القصائد، وهو شاعر مقلّ على أية حال، تمتد كغدران هادئة وسط مشهد شعري صاخب. وفي الوقت الذي كان الكثير من شعر الستينات يحفل بقدر غير قليل من الافتعال، والفذلكات، والنزوع الذهني، كانت قصائد محسن اطيمش تجسد، وبمخيلة منضبطة، عالماً مفعماً بعذاب الذات وبساطة التقنية.
كنت أرقب مسيرته وهو يتطور بهدوء وعمق كبيرين. كان يبني عدّته النقدية والثقافية بشكل بالغ الرصانة، غير أن ما كان يدهشني، دهشة لا تخلو من أسى، أن الشاعر فيه كان يخلي الطريق تدريجياً، وبشكل يكاد أن يكون نهائياً لإنهماكات الناقد من جهة وعذابات الإنسان من جهة أخرى. كان قد أثار الانتباه إليه ناقداً بكتابه الأول (الشاعر العربي الحديث مسرحياً) ثم عزز صورته في أذهان متابعيه بكتابه النقدي المتميز (دير الملاك) الذي كان، في الأصل، رسالته للدكتوراه عن الاتجاهات الفنية للقصيدة الحديثة في العراق. كان كتابا شديد التماسك. ورغم ما بدا على بعض فصوله من استغراق في التفاصيل، إلا أنه كان مكتوباً بعناية فائقة، ومستنداً إلى وعي نقدي عالٍ، واستعداد معرفي كبير.
كان محسن اطيمش في كتابه ذاك، ناقداً أكاديمياً شديد الذكاء دون أن يفقد شيئاً من رهافة روحه أو نبلها، كان جديداً دون أن يقع ضحية للانفعال الأعمى بالحداثة التي تحولت، لدى البعض، إلى زيّ، أو صرعة، أو محاكاة. وكان قد عكف في كتابه هذا، وفي وقت مبكر نسبياً، على تفحص المكونات الفنية للنص الشعري بكفاءة. لم يكن يعتمد ، كبعض النقاد، على كتاب
مترجم يعتاش عليه في معظم منجزه النقدي، ولم يكن أيضاً مطواعاً لوصايا النقاد ، يحفظها عن ظهر قلب ، وينسج على منوالها مثل تلميذ فقير المخيلة. بل كان ذاتاً مستقلة، وذاكرة بالغة الحيوية .
يمثل محسن اطيمش نمطاً فريداً بين جيله. وبقدر تعلّق الأمر بالنقد، كان يسعى الى سبر أغوار النص الشعري بوعي نقدي محسوب لا يخلو من دفء الذات وتدفقها الإنساني. وقد يبدو ذلك نادراً، هذه الأيام، حيث يزدحم المشهد النقدي، عربياً وعراقياً، بالرؤى والأصوات، والتيارات، وربما بالادعاءات أيضاً. ولم تكن كتاباته النقدية استجابة لحسابات الكائن الاجتماعي فيه، فقد كان بعيداً عن المجاملات وما تفرضه الشللية أو الرغبة في المكاسب العاجلة. وفي مشهد قد يتصدره نقـاد لا يفقهون شيئاً من مكونات الإيقاع في القصيدة العربية، كان معظم جهده النقدي إصغاء فردياً صافياً لإيقاع النصّ وتموّجاته ونداءاته البعيدة. وكان يسعى دائماً إلى توظيف قدراته المعرفية والإجرائية للاقتراب من جوهر النص، وتفحّصه دون أن يسقط في قفص منهجي ضاغط.
ولا أزال أذكر، بإعجاب، دراسته البارعة للإيقاع وعلاقته بالشحنة النفسية للنص الشعري، ولم يكن عمله مجرد تماسٍّ عابر، كما يفعل البعض هرباً من وعورة هذا المسلك ومتطلباته، بل كان ممارسة نصية تستند إلى الربط الحيّ بين انفعال الذات وتوتراتها وما يلحق بالتفعيلات من خلخلة أو تغيير يخرجها من الثبات إلى التحول، ومن الذاكرة إلى الخبرة. لقد كان يكشف لنا عن انصهار هذه التفعيلات في بنية القصيدة بعد أن تتعرض، بفعل المخيلة وحركة النفس، إلى الثلم أو الانكسار، التعثر أو السرعة: أعني بعد أن تتحول من تفعيلة جاهزة، ما قبل نصيه إلى حركة يخلقها منطق النصّ وضغوط الداخل.
لم يكن محسن واحداً من الشعراء الذين يكون الفصل بينهم وبين نصوصهم سهلاً على الدوام. لقد كانت نصوصه الشعرية تغمر سلوكه اليومي بدفء خاص، كما أن مسلكه الحياتي كان نضاحاً بالكثير من عذوبة تلك النصوص وطراوتها. وكم كان مؤلماً، حدّ الفزع، أن أراه في أواخر الثمانينات وهو يندفع إلى غروبه المؤكد بخطى متسارعة. كنت أحاضر، حيث يعمل أستاذاً في الجامعة المستنصرية، وكان يأكلني الألم وأنا أرقبه خارجاً من قاعة الدرس أو داخلاً إليها وهو يذوي يوماً بعد آخر. شيء ما كان ينكسر في جسده النحيل وروحه الصافية فيشوش ذاكرته، ويخمد جمرة الخيال لديه.
وحين التحقت للعمل بجامعة صنعاء، عام 1991، كانت رسائل محسن إطيمش إلى الشاعر عبد العزيز المقالح، وإليّ شخصياً، حزينة إلى حد يفوق الوصف. بل كانت مقاطع من أدب الاستغاثات العالي، وكأنه يريد الانفلات من أيامه في بغداد بأية طريقة كانت. وبمعاونة من الدكتور المقالح، الذي كان مديراً لجامعة صنعاء آنذاك، حصلت له على عقد للعمل في الجامعة عام 1992، وكتبت إليه أن تذكرة السفر تنتظره في عمّان.
ورغم مرضه الذي لم يعد خافيا على الكثيرين، كنا نوهم أنفسنا بأن محسن قد تجاوز حافة الخطر حقاً، غير أننا لم نستمتع بهذا الوهم طويلاً. فقد كان يندفع مع الليل والمرض والغربة إلى نهايته المريعة وكأنه كان في عجلة من أمره. وفي عام 1994، وبعد أن ثقل عليه المرض، لم يعد لنا من خيار إلا إدخاله المستشفى، لكن حالته كانت تنحدر بسرعة مرعبة، واستجابة لنصيحة الأطباء قررنا نقله وبأقصى سرعة، إلى بغداد. لم يكن هذا القرار بعيداً عن أخيه الشاعر عبد اللطيف اطيمش، المقيم في لندن، كنت أتبادل معه الأدعية ، والمخاوف، والمكالمات طوال تلك الفترة.
كنا في توديعه، في مطار صنعاء، ذات صباح كئيب؛ مجموعة صغيرة من أصدقائه: شكري الماضي، عبد الرزاق الربيعي، كريم جثير، إبراهيم الجرادي، عبد الرضا على، ومؤيد عبد الله الذي رافق جثته الحيّة إلى عمّان. وكان محسن، وهو يرقد في سيارة الإسعاف التي حملته من المستشفى إلى المطار مباشرة، غارقاً في هالة من الذبول والوداعة والاستسلام المطلق لمصيره. كانت ملامحه، كما علّق الشاعر الشاعر إبراهيم الجرادي، شديدة الشبه بملامح السياب في أيامه الأخيرة: وجه ناحل، وعينان حائرتان، وإحساس بالعزلة. وكان يبدو وكأنه مستغرق في حديثٍ حميمٍ مع الموت.
في تلك اللحظة أحسست أن مدرج المطار كان مستسلماً لمخالب طائر همجي يتأهب لرحلة لا عودة منها. حلّق طائر الرخ الهائج مندفعا في عاصفة من الهواجس والشكوك، وبين مخالبه ذلك الشاعر/ الطفل وهو يبتعد عنا إلى الأبد: ذاتاً هذّبها الوعي وارتفعت بها الموهبة، وجسداً بطشت به إخفاقاته وأحلامه.
ترى هنا استقرَّ:
في عظامنا النائحةِ ، الغبراء، أم هناكْ ؟
هل عـاد للفراتِ ؟ أيُّ وردةٍ تفوحُ من غبارهِ ؟
وأيُّ نجمٍ ضائعٍ يعلق بالشِبَّاكْ ؟
قيلَ مضى:
يبحث عن غزالةٍ غائمةٍ كالوهـمِ ،
بل عن قمرٍ مطاردٍ، بل باحثاً في دمهِ
عن جمرة الهلاكْ ..
دخلنا شقته البسيطة، في الحي السكني للأساتذة لجرد محتوياتها. كنا ثلاثة على ما أذكر: د. شكري الماضي، د. طارق نجم عبد الله، وأنا. كان كل شئ فيها يفوح برائحة خاصة، رائحة تلذع القلب وتدمي الذاكرة: أوراق مهملة، قصائد لم يفرغ من كتابتها، صحف مكدسة كيفما اتفق، رسائل لم يجد الوقت لإيصالها إلى دائرة البريد، مقالات مصورة، ملاحظات عن ديونه ومستحقاته.
كان هناك كيس ورقيّ كبير ملقى في زاوية من زوايا الغرفة. القيت عليه نظرة عجلى وحملته إلى مكتبتي: كان يشتمل على مجموعة من المغلّفات الأصغر حجماً، والمقالات المصورة، وبعض المسوّدات. وكانت دهشتي كبيرة حين عثرت على مسودات كتاب جديد له عنوانه: (تحولات الشجرة)، موضوعة في مغلف بنيّ مهترىء وقد عنْونه محسن اطيمش إلى د. على عقله عرسـان، رئيس اتحاد الكتاب العرب. أما متن الكتاب، الذي سأتوقف عنده في حديث لاحق، فقد أهداه إلى أستاذه د. محسـن طـه بـدر.
رحل محسن إطيمـش عن مشهدنا النقدي والشعري عام 1994 دون ضجة أو افتعال، بصمت مهيب لا يليق إلا به. رحل كما جاء ، صافياً ووديعاً: بقدمين لم تجرحا حصاةً ، وقلبٍ لم يعرف اللؤم. ومع أنه من جيل يظن الكثيرون من شعرائه أنهم أنصاف آلهة، أو عباقرة لا يتكررون، ظل محسن اطيمـش منتشياً، حتى النهاية، بخصاله الملائكية وعذابه الجميل.