الليلة الأخيرة في مدينةٍ جميلةٍ حـدّ القسوة ..

كان المبنى قديماً نسبياً، من طوابقَ أربعةٍ ولا مصعدَ هناك. كنت أسكن في الطابق الأخير منها، وكان يسكن في الشقة أو الغرفة المجاورة، لا أتذكر على وجه الدقة، رجلٌ يشبهني تماماً. كان يهبط من غرفته، في الطابق الرابع، في ساعات الفجر الأولى من كل يومٍ، يتخبط في حوض السلم الضيق الذي لا يزال مليئاً بالظلام والهواجس، وربما بالرسائل التي لا تعنيه. كان يبحث عن مغلّفٍ بنيّ اللون، يضع حداً لذلك الانتظار الذي يأكل، في كل لحظةٍ، جزءاً مما بقيَ من قدرته على الاحتمال. وكنت أحياناً أسمع صوته، في الليل، يخترق الجدار الفاصل بيننا، فأحسه يرتمي على أرضية الغرفة منهكاً تفوح منه رائحة ندمٍ ثقيل.
سمعت ذات ليلة أنين قدمين واهنتين على السلّم الضيق وغليانَ دمٍ لا يكف عن الارتفاع. كان شبيهي يعود من المستشفى عند منتصف الليل وحيداً. أخبرني في اليوم التالي، وأنا أطمئنّ على حالته، أنه يعيش مراجعةً لأوضاعه الشائكة .
حين ذهبت إلى فراشي متأخراً ذات ليلةٍ، سرعان ما غرقت في نومٍ عميقٍ على غير العادة. كان ثمة ظلامٌ إضافيٌّ يتدفق، إلى نومي، من بئر السلّم. نهض من بين طياته رجلٌ يبدو في مقتبل كهولةٍ هي أقرب إلى الشباب منها إلى الكهولة الحقيقية. ويرافقه مثل ظله رجلٌ يكبره عمراً وقد يفوقه دهاءً. قدّما إلى الرجل الذي يشبهني، مغلفاً بنّيَّ اللون، أسودَ القلب. فاندلعت من بين سطوره، بعد أن فتحاه، غيمةٌ من الدخان المسموم، غمرتهم جميعاً. أبلغاه بقرار الرفض، ثم قاما باقتياده إلى مطار هيثرو بعيداً عن أوهامه. وكلما توغلت بهم السيارة في ضوء المدينة المشوب بالظلمة الفاقعة. أخذته الظنون والتوجسات بعيداً عن ذاته.
وضعاه في فم الحوت، حيث إجراءات العودة إلى الإمارات، ثم استدارا إلى عمق لندن الصاخب المضيء. استغرقته عملية إتمام الحجز، وشحن الحقائب، أكثر من ساعتين، لا لصعوبةٍ، أو ازدحامٍ، أو نقصانٍ في الوثائق المطلوبة. بل كان هناك شيءٌ ما، يجره إلى الوراء: عجينةٌ من طينٍ فائرٍ يمازج فيها النقيضُ نقيضَه: ما الباعث على هذا الاضطراب الذي يعصف بين جوانحه؟ قرار المجيء أم قرار العودة؟ نصف الخطأ أم المضيّ فيه حتى قطرته الأخيرة؟ تقدم أكثر من مرة إلى الكاونتر، وأكثر من مرة كان يعود أدراجه إلى أول الصف، في انتظار دوره أمام موظف شحن الحقائب.
في الطريق إلى بوابة الخروج، تقف موظفةٌ شقراء. كانت غارقةً في شبابها الناريّ، وكأنّ عينيها الواسعتين تستدرجان المغادرين إلى مواصلة رحلاتهم القادمة إلى مـآلاتٍ اختاروها أو اضطروا اليها. ظل يدور طويلاً قبل أن يقدّم للختم جواز سفره وبطاقة الصعود إلى الطائرة. كلما مرّ أمامها، أسرع في الهرب من ذلك الخط المتوهم، الذي يفصل بين لندن وبيته، الملقى خارج ذلك الضباب الشتوي الحافل بالانفعالات المتناقضة، وبقايا حلم يبتعد تدريجياً. استدار راجعاً إلى أول الصف، كما فعل عند كاونتر الحجز. فترة خاطفة من التأجيل قد تنفع. فسحة من الشرود، أو حلم يقظة فاتر، أو تخيّل يعبر منه إلى حالة من التراضي المؤقت مع الذات.
جاءه ثانية دوره الذي عافه قبل قليل. لا بد من إكمال إجراءات الرحلة. كانت عيناه فارغتين بينما يد الموظفة تدفع بطاقة الصعود إلى داخل الجهاز. هل تعلم هذه الشابة الطافحة بالحياة واللذة ماذا فعلت به الآن؟ ثمة مفرمة كونية تمر، في تلك اللحظة، على عظامه وتخيلاته.
أخذت الطائرة تشق طريقها تدريجياً بين طبقات الغيم الكثيفة، صاعدة، مبتعدة، شيئاً فشيئاً، عن كل شيء كان مأمولاً أو متوهّماً. حدق في متاهةٍ لا يدرك لها دلالةً أو حدوداً. ثمة امرأةٌ تنتظره مهمومةً فرحة. تجرّد عودته من كل ما يحيط بها من وصفٍ جارحٍ أو ثقيل الوطأة. ولا ترى فيها إلا قلباً مطعوناً يعاود الالتئام ثانيةً. نافذة الطائرة تضيق شيئاً فشيئاً، ولندن تبتعد أكثر من أيّ وقتٍ مضى عن لندن، لتسقط في هاويةٍ لا قرار لها..
_____________________________________________________________________
فصل من سيرتي الذاتية : الى أين أيتها القصيدة ؟ ، عمان ، 2023