تحـوّلات الشّــجـرة

يمثل كتاب (تحولات الشجرة) للناقد محسن اطيمش ، دراسة في موسيقى القصيدة الحديثة في العراق، وما طرأ عليها من تحولات كبرى. وهذه الفصول، في معظمها، تذكّر بذلك المسلك الرصين الذي كان يميز كتابات د. اطيمش النقدية، وما كانت تشتمل عليه من صفاء في الرؤية وتماسك في الإجراءات.
وهكذا يواصل د. محسن اطيمش في التحولات ما بدأه في كتابه (دير الملاك). فهو يخوض، بدراية عميقة، في ميدان لا يقتحمه إلا القلة من نقاد شعرنا الحديث هذه الأيام: أعني دراسة المستوى الموسيقي والإيقاعي للقصيدة الحديثة. فهذا النمط من الدراسة يتطلب إحاطة كبيرة بموسيقى الشعر العربي، ووعياً عالياً بطبيعة التحولات الإيقاعية. إضافة إلى ذلك فإن دراسة كهذه تستدعي، أيضاً، قدرة خاصة على وضع هذه المعرفة موضع التطبيق، وقد كان نصيب محسن إطيمش من كل ذلك كبيراً. كانت دراسته تلك من أكثر فصول كتابه (دير الملاك) إثارة ، ومن حسن الحظ أن محسن اطيمش أعاد إدراج الكثير منها لتشكل معظم مادة الفصل الأخير من كتابه الجديد .
في كتابه هذا، نلتقي بالكثير من خصاله النقدية ، لكننا قد نصادف، هنا أو هناك، خروقاً في الذاكرة، أو كدراً في النفس أيضاً، قد تظهر في ثنايا هذه الصفحات أشياء تستدعي التأمل، وكأنها بقية من وميض أخير: إطالة غير محسوبة، إعلاء من شأن الذات لم نعهدها فيه من قبل، أو شكوى مريرة من الإهمال لم يعد قادراً على إخفائها.

ولاشك أن لكل ذلك دوافعه الموضوعية والذاتية القاهرة: لقد أنجز محسن اطيمش هذا الكتاب، أو معظمه على الأقل، في سنواته الأخيرة، حين كان في منعطف صحي يزداد حدة وإيلاماً كل يوم، ومع ذلك، يظل كتاب تحولات الشجرة إضافة مهمة إلى ما تركه محسن إطيمش من كتابات تميزت بالجدية والصدق دائماً.
كم محتاجون نحن، وفي هذه الحقبة بالذات، إلى الخروج من الافتتان بالآخر إلى الثقة بالذات، من الانفعال إلى التفاعل ؛ من التبعية إلى الحوار، ومن الصدى إلى الصوت، و أعتقد أن هذا الكتاب لا يقع بعيداً عن هذا المسلك.
لم يكن محسن إطيمش ، في نقده، مهووساً بالموضات أو التجريب، أو الاستعراض المرضيّ للأنا الملتبسة. ومع صلته المتينة بالتراث، كان مطلعاً، بعمق، على التحولات النقدية والأدبية الحديثة، لم يذهب في تحليله النقدي للقصيدة ، بعيداً عن وقدة النصّ وتوتره الجميل، ولم يجعل من وعيه لمفاهيم الحداثة إرهاباً لفظياً، أو تغنيا لا حدود له بالمصطلحات كما يفعل البعض .

كانت تجربتي مع مسودات هذا الكتاب طويلة ومعذَّبة: أحسست في البداية أن عليَّ إرسال الكتاب إلى الصديق د. على عقله عرسان تحديداً؛ فقد ظلت كلمات محسن اطيمش، على ذلك المغلف الشاحب، تومض في أعماقي حتى اليوم. إحساس ما، غامض ومهيمن ربطني بتلك الكلمات، وجعل لها، في وجداني، وقع الوصية أو تلويحة الوداع الأخيرة.
وفي عام 2002 التقيت د. عرسان في بيته بدمشق. كان متحمساً لنشر هذا الكتاب، لكن الأمر أخذ ، بعد سـنة، مساراً مختلفاً حين أخبرني، وبلطفه المعهود، أن تقرير الخبير يقترح بعض التعديلات، فقررت الاحتفاظ به انتظاراً لفرصة أفضل. ثم بعثت به، بعد أن كتبت مقدمة له، الى الصديق الأستاذ خضير اللامي ، حين كان مسؤولاً ، في التأليف والنشر.

كنت، وما أزال، أتمنى أن تكمل هذه الشجرة تحولاتها في مناخ فيه من الاحتفاء بمحسن إطيمش، شاعراً وناقداً وإنساناً، قدر ما فيه من الموضوعية، وأن ينظر إلى هذا الكتاب باعتباره امتداداً للمنجز النقدي لكاتب مبدع كان انطفاؤه المبكر موجعاً لأصدقائه وطلابه ومتابعيه. وليس قليلاً ما عاناه الراحل محسن اطيمش من إجحاف حيّاً وميتاً ، فمذ رحيله عام 1994 وحتى اليوم ، لم يعد طبع واحد من كتبه ، وهي هامة على قلتها، ولم تصدر مجلة عراقية عدداً خاصاً أو ملفاً عنه ، مع استثناء وحيد ربما، على عهد الشاعر الراحل إبراهيم الجرادي حين كان رئيساً لتحرير مجلة الموقف الأدبي السورية ، فقد أعــاد طبـاعة كتـاب ( الشاعر العربي الحديث مسرحياً ) ، مع مقالة لي عن الراحل مقدمة للكتاب.

لقد شهدت وتشهد دار الشؤون الثقافية ، في عهد مديرها العام الشاعر والأكاديمي الدؤوب د.عارف الساعدي ، احتفاء قلّ مثيله بالرموز الكبيرة في مشهدنا الشعري والنقدي. وكم أتمنى أن يبلغ بهذا المسار الاحتفائي ذروته الناصعة : محسن اطيمش، بطبع أعماله ورفع ما لحق به من إهمال، فهو يمثل، دون شكّ، صفحة شديدة النبل والذكاء ، في تاريخ المدونة النقدية العراقية .