بروين حبيب
تحت هذا العنوان نشرت الشاعرة والإعلامية البحرينية برويـن حبيب ، في جريدة القدس اللندنية، كلمة شديدة الدفء والجمال. وأنا إذ أعيد نشر هـذه الكلمة هنا ، أشكرها بعمق ومودة .
**
سمعت بالعـلاق في بداية دراستي الجامعية، كما كنت أسمع بعشرات الأسماء الشعرية التي كان أساتذتنا وفيهم نقاد كبار مثل صلاح فضل، رحمه الله، وعلوي الهاشمي يشيرون إليهم بأصابع الإعجاب حينا ومباضع النقد حينا آخر. ولكن أول احتكاك مباشر واعٍ مع نصوص العـلاق كان حين كُلفت وأنا في سنتي الجامعية الثالثة بكتابة بحثين، فاخترت شاعرين أولهما غازي القصيبي، وكان علي جعفر العـلاق ثانيهما. ولعل لعراقيته الدورَ الأكبر في هذا الاختيار، فقد كنت يومذاك ـ وإلى حد ما اليوم أيضاً – أرى أن «الشِعْرَ يُولَدُ في العراقِ، فكُنْ عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي»، كما أنشد محمود درويش مرة. إنه عراق أبي نواس وبشار بن برد وأبي العتاهية والمتنبي وصولا إلى الكلاسيكيين الكبار الرصافي والزهاوي والجواهري، وليس انتهاء برواد القصيدة الحديثة السياب والبياتي وسعدي يوسف، وما لا يحصى من أسماء صنعت مجد القصيدة العربية.
ولا أزعم أنني وصلت حينها وأنا الطالبة التي لم تكتمل أدواتها النقدية إلى ما ذهب إليه الناقد العراقي فاروق يوسف، من أن علي جعفر العلاق كان فاصلة بين جيلين «لم يحبذ الانتماء إلى قبيلة سبقته إلى الشعر، أو قبيلة تقف في انتظاره. وقف وحيدا وكان لديه مشروعه الشعري الخاص»، ولكني أضفت إلى قائمتي من شعرائي المفضلين اسما جديدا أحرص على متابعة شعره، كما حرصت في ما بعد على متابعة نثره يوم بدأ في نهاية الألفية الثانية يكتب مقالاته في مجلة «الصدى» الإماراتية، وهو ناثر يأسرك بلغته الشاعرية وليس بالضرورة أن يكون الشاعر الجيد ناثرا جيدا سوى استثناءات منهم نزار قباني وأدونيس وشوقي بزيع.
حين انتقلت للعمل التلفزيوني في دبي نهاية 1999 كان في أجندتي اللقاء الشخصي بأحد شعرائي المفضلين، ولم أتأخر عن الاتصال به وزيارته في بيته في مدينة العين، وكان أستاذا في جامعة الإمارات، بعد سنوات من التدريس الجامعي في اليمن، أعقبت فترة الدكتوراه في إكستر في بريطانيا. ذهبت إليه أحمل مجموعتي الشعرية «رجولتك الخائفة طفولتي الورقية»، وكتابا نقديا لي كان حديث الصدور يومها «تقنيات التعبير في شعر نزار قباني»، فاستقبلني في بيته مع عائلته ألطف استقبال، وتعرفت على دواوينه الورقية الصامتة، وديوانين ناطقين هما ابنتاه خيال ووصال الابنة البكر التي كانت تحضر رسالة ماجستير عن قصيدة «الأرض الخراب» للشاعر إليوت، وأصبحت في ما بعد أكاديمية ومترجمة ارتبطت معها بصداقة. امتد لقاؤنا الذي كان من المقدر له أن يكون خفيفا لطيفا إلى ساعات، أذكر أنه قرأ لي فيه قصيدته «مرايا الروح»، وما أزال إلى الآن كلما دخلت مقهى أو مطعما وأرى رجلا وامرأة تتوسطهما طاولة فارغة، يثب إلى ذهني قوله في تلك القصيدة :
شـجرٌ أخرسُ أم مـائدةٌ
تنحني، جرداءَ، مـا بينهمـا؟
أم رمـادٌ يتنـامى:
هـل همـا حقـاً همـا ؟
في هذا اللقاء لفتت نظري أبوته الإنسانية والأدبية لابنتيه، فقد تأثرتا به حتى في خياراتهما المستقبلية، وكان داعما لهما لا يهديهما في عيدي ميلاديهما سوى الكتاب . بعد هذا اللقاء الأول الحميم المحاط بالدفء العائلي، التقيت علي جعفر العلاق كثيرا في الندوات، وحفلات الجوائز ومهرجانات الشعر في الإمارات، بحكم أننا نسكن بلدا واحدا وفي مدن مختلفة كان الشعر مُضيفنا فيها. وكان يتأكد لي مرة بعد أخرى أنه تلبس القصيدة، يمتلك موهبة تحويل الكلام العادي إلى شعر، فبعفوية وهو يتحدث تعتقد أنه يقرأ لك مقاطع من آخر قصيدة كتبها، لذلك كان لقائي التلفزيوني معه في برنامجي «نلتقي مع بروين» من أكثر الحلقات مشاهدة، ولا يزال إلى حد الساعة من يرجع إلى الحوار ليشاهده. وهذا التوحد مع الشعر جعل لعلي جعفر العـلاق مريدين، فقد شهدت مرارا التفاف طلبته حوله، وتجمهرهم في حضرة شعره، وعلى عكس المتعارف عن الشعراء، أن موهبتهم تبدأ قوية ثم تتضاءل مع الزمن لتخفت في شيخوختهم، سار العـلاق بطريقةٍ عكسية، ففي العشرين سنة الأخيرة أصدر أكثر من عشرين كتاباً توزعت بين الدواوين الشعرية أساسا، والدراسات النقدية وختامها سيرته الذاتية «إلى أين أيتها القصيدة؟» التي نال عليها جائزة الشيخ زائد للكتاب في دورة السنة الماضية. وقد لخصت لي ابنته وصال هذه المفارقة بقولها، إن والدها أصبح أكثر إبداعا بعد تقاعده، وكأنّ مسؤولية التدريس الجامعي كانت تنهب حصة من زمنه الإبداعي. وهاجس الوقت هذا كان يقفز إلى السطح، كلما كنت ألتقيه فيسألني من أين أجد كل هذا الوقت للتوفيق بين العمل الإعلامي الذي يستنزف صاحبه وولعي الشديد بالقراءة.
قبل خمس سنوات فاز علي جعفر العـلاق بجائزة العويس للشعر، وقد كتبت في هذه الجريدة مقالا عن الحدث عنونته بـ«النقاء في حلبة القتال». وكنت من قدمه في الحفل فاستشهدت في كلمتي بأبيات من قصائده، وبعد الحفل قال لي متعجبا بأن استشهاداتي كانت جميعها من القصائد التي اختارها للقراءة. كما انتبهت لأمرين في حفل العويس كنت لاحظتهما من قبل، ولكن تأكدا لي، أولهما أن العـلاق يحفظ شعره في أغلبه إن لم يكن كله، في تقليد عراقي جميل لعل مثله الأجلى الجواهري، الذي كان يقرأ شعره من ذاكرته العجيبة إلى سن التسعين. وفي هذا دليل جميل على أن علي جعفر العـلاق كان يرى الشعر مسؤولية كلمة ومنهج حياة، والأمر الثاني، يكاد علي جعفر العـلاق أن يكون الشاعر الوحيد في المشهد الثقافي العربي الذي يُرى دائما برفقة زوجته في أمسياته وفي تكريماته وفي الفعاليات الثقافية التي يحضرها، وكم كانت هذه المرأة عاشقة لشخصه وشعره، داعمة له في مشروعه الإبداعي، مصاحبة له في البلدان الكثيرة التي سكنها وزارها بعيدا عن مسقط القلب في العراق.
في لقائي الأخير به قبل أيام في مهرجان «أيام العربية» في أبو ظبي استرجعنا محطات من صداقة أدبية امتدت قرابة ربع قرن، ولاحظت غبطته بنيله جائزة الشيخ زايد عن سيرته الذاتية «إلى أين أيتها القصيدة» المكتوبة بلغة تعالت عن التجنيس الأدبي فتماهى فيها الشعر مع النثر، كما تماهت في العلاق ثقافة تراثية عريضة، ماؤها ميراث ضخم من الشعر العربي الممتد على مساحة قرون ممزوجة بثقافة حديثة غربية، امتلك مفاتيحها من دراسته في بريطانيا. لقاءاتي بعلي جعفر العـلاق المفعمة بالروح الأبوية تشحن دائما طاقتي بالإبداع أو «الجنون الجميل» كما يُسميه، وتملأني اعتزازا بشاعر يُغرق المدى بالندى وتنحني الزهور في حضوره.
_______________________________________________________________________
جريدة القدس ، عددها الصادر بتاريخ 28-1- 2024