يقدم سركون بولص، دائمـاً، الدليل على انقطاعه إلى مشروعه الشعريّ انقطاعاً لم يبلغه، ربما، إلاّ القلة من شعراء قصيدة النثر اليوم. وقد ساعده على ذلك اشتغاله على قصيدته بصمتٍ ودرايةٍ عاليين، يسّـرا له أن يهبط إلى الأعماق تماماً، لا الوقوفَ على حافة الأشياء مراقبا أو مفتوناً.
كان لـه عينا نسرٍ خرافيٍّ، أتاحتا له أن يفتـرّس ما يراه ، بتحفّـز حسّي عالٍ، غير أن هذه الضراوة الحسية لم تكن عدته الوحيدة ، فقصائده، أو الكثير منها على الأقلّ، تجسد قدرة كبيرة على الوفاء بمتطلبات الشاعر الحقيقيّ، وأعني تحديداً الموهبة الشعرية والخزين الثقافيّ. كان يرى أن الكتابة الشعرية مسعىً إلى انتشال الحقيقة من بين الركام اليوميّ، وإزالة ما علق بها من صدأ، وأقنعة.
وبذلك تكون الكتابة لديه، فعلاً فضائحياً بالمعنى الإيجابيّ للكلمة، وتجليةً لما يكمن تحت الركام، وصولاً إلى تلك الحقيقة، المرّة، الملقاة في أعماق النفس، كجرةٍ قديمةٍ تنهشها الأتربة. إن فعل الكتابة، كما يراه سركون بولص، هجومٌ على السطحي في الحياة، على البريق المترع بالظلام، وصولاً إلى تلك ” المياه المضطربة التي تغلي تحت السطح ” على حد تعبيره.
تكاد كل قصيـدة لسركون بولص تقريبـاً أن تنهض بفكرة ما، لكنها ليسـت فكـرةً ذهنيةً مجردة، بل ممـزوجة بمصهـرٍ حسٍّي حـارق. كما أن قصيدتـه، رغم صفائها التعبيـريّ وحيويتها الشكلية، مثقلةٌ بالدلالـة والرؤيا، لا تكتفي بذاتها، ولا تقف عند حدود التعبير، المبرأ من المعنى، أو المعتمد على فضائل الشكل وحده.
وعلى خلاف الكثير من قصائد النثر، ربّما، تفصح قصيدة سركون غالباً عن وعي بالتراث بمختلف تجلياته الأسطورية والدينية والأدبية، حتى تبدو أحياناً وكأنها نموذجٌ بالغ الحيوية لشعريةٍ من طرازٍ مميزٍ في الكتابة النثرية؛ فهي لا تغتنم هذه الرحابة الشكلية، التي أسيء استخدامها أحياناً، لكتابة قصيدة هـيّنة ومتاحةٍ للجميع. إنها على قدرٍ عالٍ من النضج، والاختمار، وتمثل التاريخ .
لا تغترف قصيدته من نهرٍ شائع، بل تسعى إلى الانفتاح على هواء الثقافة في الزمن الراهن، أوعلى أزمنةٍ موغلةٍ في القدم. وكأنها تمثل وجهاً متفرداً من وجوه الإفادة من التراث الإنساني عامة والتراث الرافديني تحديداً. والمدهش في شعر سركون أن الحدّ لا يكاد يُـرى بين الذاكرة ومكابدة الجسد، أو الأسطورة والتاريخ. وكل هذا المزيج الثقافيّ والروحيّ يأخذ شخصيته الشعرية صاعداً من نفسٍ مترعةٍ بالألم والوعي. وهكذا فإن سركون بولص نموذجٌ لشاعر النثر الناصع الذي يقدم براهينه الشعرية دائماً، لا على براءته من تهمة القطيعة مع التراث، بل على إدراج هذا التراث مكوّنا من المكوّنات الدلالية والجمالية لقصيدته.