د. ياس خضير البياتي
نشر الدكتور ياس البياتي مقالته هذه في صحيفة الزمان وإيلاف بتاريخ 4 حزيران . وأنا إذ أشكره على هذه المقالة الجميلة، التي فيها من المعرفة قدر ما فيها من الجاذبية، أعيد نشرها في هذه الصفحة .
**
لا يزال الجدل محتدمًا باختلاف الرؤى حول كتابة السيرة الذاتية، وأسئلة الحدود الفاصلة بين الشعر والسيرة الذاتية، وجدلية العلاقة بين الذاكرة (السيرة)، والمتخيَّل(الشعر).
ولا يزال السؤالُ حاضرًا، وبقوة، عن جدوى أن يكتب الشاعر سيرته بالسرد بدلاً من الشعر السيرة الشعرية؛ ما دام الهدف هو تقوية العلاقة مع القارئ، ونقل الخصوصيات الذاتية، والكشف عن أسرار النفس البشرية ومزاجها وتقلباتها. هكذا فعلها الشاعر محمود درويش، على سبيل المثال، لا الحصر، عندما سرد شعرًا سيرتَه الحياتية، وربطها بعلاقتها بالزمان والمكان في مجموعة شعرية كاملة.
بالمقابل، هناك مَن كتبوا سيرتهم الشعرية سردًا؛ مثل: عبد الوهاب البياتي في كتابه “تجربتي الشعرية”، وصلاح عبد الصبور في “حياتي في الشعر”، وشفيق جبري في “أنا والشعر”، وأدونيس في “ها أنت أيها الوقت”، ونزار قباني في “قصتي مع الشعر”. وجبرا إبراهيم جبرا في “البئر الأولى”… وغيرهم.
صحيحٌ أن السيرة الذاتية هي “حكيٌ نثري”، بتعبير فيليب لوجون، يعتمد على الذاكرة؛ فإنها تنقل أحداثًا واقعية حدثت في أزمنة وأمكنة مختلفة، بلغة السرد والنثر، هدفها: خلقُ تفاعلٍ سردي بين صاحب السيرة والقارئ، وهي نوع من المخيّلات الصورية، المشحونة بعناصر جمالية وفنية وإيحائية، إلا أن الواقع الثقافي ومتغيراته قد أوجد فهمًا جديدًا للسيرة، بعد أن استفادت السيرة الذاتية والشعر من تماس الأجناس الأدبية وتداخلها.
فقد تم (صعود مشروعات كتابة السيرة الذاتية شعريًّا في العقود الأخيرة، ولا سيما بعدما التبسَت الحدود بين الشعري والسردي؛ حيث أُتِيح للباحث اكتشاف جماليات الأنا في السيرة الذاتية وتخيلاتها داخل فضاء الشعر)، حسب رأي الناقد المغربي عبد اللطيف الوراري. وهناك من يرى بأن الشعر لا يختص وحده على الموسيقى والخيال؛ بل يشاركه فيهما النثر، “ففي المنظوم، أي الشعر، نثر، والمنثور فيه نظم”. برأي أبو حيان التوحيدي.
يحفل العمل الإبداعي للشاعر والناقد علي جعفر العلَّاق، “إلى أين أيتُها القصيدة؟” الفائزة بجائزة زايد للكتاب لعام (2023)، بكمٍّ هائلٍ من الصور الشعرية الأنيقة التي تُفجِّرُ سيرته الحياتية من فواجع الزمن، وأمراض البشر، وغربة الأوطان، وصوت الأنهار والطيور. وتحديات المثقف، وهو يواجه مجتمعًا يغرق بالفقر، والطقوس والسحر والغيبيات، وثقافة سياسية تنمو على الاستبداد والقهر والكوارث والأزمات. (خرافات وحكايات كثيرة كانت تهبّ على عقولنا فتدفعنا أمامها، في دروب القرية، لنمارس لهونا العجيب، أو نلتصق، أكثر فأكثر، بسحر الخرافة وأجوائها العذبة) ص19
أمكنة الولادة والعمل والدراسة والسفر في سيرة العلّاق، ليست هي أمكنةً شخصيةً للسارد؛ بل هي أمكنة تتفجر بالقلق والتحديات، فيها العوالم الاجتماعية تتغير، والدهشة تزداد مع الأحداث، وتتكشف فيها قسوة الواقع، وفظاعة العلاقات الاجتماعية السلبية، وخاصة بين المثقفين، حيث (ثقافة الشلليات المتفشية كالأوبئة، وماقيها من نفاق ومحاباة) ص114، و(لا أظن أن هناك وسطا يحتفي بالنميمة والتحاسد، والى أناس ميالين إلى الإيذاء ،وتعاطي التقارير الكيدية) ص177 *
عالم العلاق يبتكر بالفواجع المتتالية، وتنكشف فيه مأساة الإنسان وانكساراته ونجاحاته. هي ليست قصة السارد؛ إنما هي قصة الجميع، وإن اختلفت الأزمنة والأمكنة والشخوص؛ خلاصةً لواقعٍ يتشارك الجميع في قتله وهدمه؛ بل هو تسجيل لتاريخ كامل، لا ترتبط مهمتها بالمؤرخ التاريخي والباحث الاجتماعي فقط؛ إنما هي وظيفة المثقف العضوي أيضًا. لقد عرفنا تاريخ الشعوب ومآسيها وأمجادها، وانكساراتها وانتصاراتها من القصص والروايات والشعر واللوحة.
يُثير االشاعرفي عمله الجديد، الكثيرَ من الانتباهات، ابتداء من عنوانه المبتكر وتركيبه اللغوي. فهناك هندسة لغوية متعمَّدة؛ فهو لا يعمد أن يثير زوبعة الجذب الآني، وإثارة التلقِّي؛ إنما هو تساؤلٌ بأسلوب كلاسيكي لا يُوحي لك بأنه كتاب “سيرة ذاتية” لأول وهلة حسب ثقافة القارئ العربي؛ عنوانٌ مقلوب في التراكيب، عن طريق التقديم والتأخير؛ حين قدَّم عبارة “إلى أين” على “القصيدة؛ ليعطيَ عمقًا في المعنى، ويحافظَ على قوة الأسلوب اللغوي، ويَخرجَ عن المألوف ومنه.
الجانب الآخر، هو تمسُّكه بعبارة “القصيدة” في العنوان، كأنها حبيبتُه التي لا يريد أن يفارقها، أو إسقاطٌ نفسي للاندهاش والذوبان بمعناها السحري، أو إظهار الوفاء لمعناها الرمزي، أو كما يبررها المؤلف: “شريكتي في ابتكار الوهم أو الحقيقة، نَعومُ معًا في كتلة اللهب دون حماية”.
وهذا ما يُذكرني بالشاعر الألماني يوهان غوته (1749-1832) عندما أصرَّ على كتابة عبارة “الشعر في سيرته الذاتية” بعنوان (الشعر والحقيقة في حياتي)؛ باعتبار أن الحياة هي خليط من الشعر والحياة؛ فكانت سيرته هي بمثابة مذكرات عن سنوات شبابه وبداية رحلته الإبداعية.
تأتي قيمة العمل بكونه خريطةً حياتيةً لفعل المجتمع، وليس لفعل الفرد، متجاوزةً الذاتَ الفرديةَ إلى الهمِّ الاجتماعي. فهي (كتابة الحياة) بشكلٍ أشمل، محافظةً على سماتها الثقافية كـ (سيرة حياتية)، دون أن تتقاطع مع الرواية والتاريخ وأدب التراجم؛ حيث الانتقال إلى المجال الرحب الذي يتجاوز النصَّ إلى مجال الخطاب الثقافي؛ لذلك قام برحلةٍ حياتية مع الشخوص والأمكنة الجغرافية، بإيقاع فني ليس مقتصراً على عنصري الجمال والدلالة، وإنما على المكون السردي بروح الشعر، دون أن يشعرَنا بالنرجسية وتضخُّمِ الذات، وافتعالِ الأحداث، وجريانها إلى منطقة الوهم والتضليل.
ثمة قاعدة باطنية تقول: “كلُّ متوالية عددية تكمُن خلفَها هندسةٌ سرية”، والمؤلف يكتب فقراتٍ موحدةً في البناء، وتسلسُلِ الأحداث، بنفَسٍ شعريٍّ في الأسلوب والمفردات والتفعيلات الرمزية، متخلِّيةً عن السرد التقليدي المتعارَف عليه في الرواية، لصالح الانخراط في قراءة الواقع؛ ولكن بنفسِ الروح الهندسية على المستوى الحكائيِّ والسرديِّ. وذلك علاوة على قواسمَ أُخرى، وهي مقاطع الشعر المزروعة في كل مقاطع السرد النثري المكتنزة بالصور المبهرة بالمعاني والألفاظ والمفردات الشعرية، فكأنما يكتب سيرة قصيدة؛ وليست مُلخَّصات لحياة ماضية انتهت بفِعلِ تقادُمِ الزمن، وفتورِ الدهشةِ الزمانية.
ما قمنا به في قراءة عملِ العلاق، هو توصيفٌ معرفيٌّ وتعريفٌ بالعمل؛ لإثارة وعي القارئ العصري. ليس محاولةً تلمَسُ (صورة الإنسان) فقط، بتعبير ميخائيل باختين، سواء المؤلف أو الشخصيات، وما يُمثلونه من أفكار ومواقف ومصائر؛ وإنما على “صورة الفكرة” التي لا تنفصل عن صورة الإنسان، والمتضمنة سرديات وتجاربَ وخيالاتٍ وأزمات، وتحدياتٍ تُشكل، بمجملها، الحقيقةَ الواحدة؛ ولكن من زوايا متعددة.
إذن، ليس المهم أن ينقل الكاتب السيرذاتي سيرته مُستنسَخَة من الواقع فقط؛ وإنما أن يمنحَها روحَ الحياة، ويضيفَ إليها إبداعَه التخيُّليَّ وتجاربَه، وينتقيَ مفرداتِها البلاغيةَ بالصور والإيحاءات، ويؤسسَ لها ديناميَّةَ دهشةِ الأسلوب، وقوة البناء السردي.
وقد صنع العلاق صوراً خلاقة أستمدها من خياله، لكنها غير منفصلة عن الواقع، فأمدها ببروتين الحياة والدهشة. بمعنى أنه صنعَ حَكيًا، وأعاد تشييدَ حياتِه من جديد. فالسيرة ليست خلاصةَ حياةِ الكاتب فقط؛ إنما هي صناعةُ وعيِ الحياة، وعمران للذاكرة، وتدريبٌ للمدارِك والأحاسيسِ لمواجهة المستقبل.
ورُغم أن صفحات السيرة المعطرة بالشعر تتعدَّى الثلاثمائة صفحة؛ لكنها موجزةٌ بالنظر لكثافتها وحمولتها، وما حملته من مآسي الإنسان وتجاربه وقضاياه الوجودية؛ حيث استقطر الساردُ أحداثًا مرتبطة بفلسفة الصوتِ والصدى، كاشفةً لنا بأن الحقيقةَ هي واحدة، وإن اختلف الزمانُ والمكان.
نعم، هي تجربة ذاتية؛ لكنها ليست رؤيةً فردية؛ وإنما هي سيرة جماعية بامتياز، تفك شفراتٍ كثيرةً للوغاريتمات الحياة. والعلَّاق كتب حياة القصيدة التي يعشَقها، لا حياته الذاتية، بالعقل والقلب معًا. أنها بالنتيجة: سؤالُ الذاتِ والموهبةِ والكتابةِ والذاكرة.
_______________________________________________________________________
- كالوسط الثقافي العراقي بشكل خاص. وقد سقطت هذه العبارة للأسف من مقالة الدكتور البياتي.